تتصاعد في أوروبا اليوم أصوات تحذر من أن الديمقراطية الغربية، التي يُفترض أنها نموذج للحكم الرشيد، قد تكون في طريقها إلى الانتحار الذاتي. وهذا التحذير أصبح أكثر إلحاحاً بعد نتائج الانتخابات الأخيرة التي أظهرت صعوداً لافتاً للقوى اليمينية المتطرفة. وتواجه البشرية الآن معضلة حقيقية: هل ستستطيع أوروبا العودة إلى مبادئ السياسة التي تم إغفالها، أم أن علينا البحث عن حلول جديدة ومبتكرة في ضوء هذا التهديد؟
إحدى القضايا الرئيسة التي يطرحها الأوروبيون حالياً تتعلق بمستقبل الدول العربية والإسلامية، بالإضافة إلى غيرها من البلدان التي تعتبر الديمقراطية مصدر حلول لمشاكلها السياسية. وهذه المسألة تنبثق من مراقبة التزايد المستمر لليمين المتطرف في أوروبا، الذي يبدو أنه يتخذ من الديمقراطية وسيلة لتقويض أسسها الأساسية، مثل المساواة بين المواطنين.
وفقاً لجريدة “لوموند” الفرنسية، فقد أصبح النقاش حول الديمقراطية اليوم ليس مجرد مسألة سياسية، بل مسألة روحية. فاليمين المتطرف، الذي يكتسب زخماً في جميع أنحاء أوروبا، لا يروج لأجندات سياسية أو اقتصادية محددة، بل يروج لأيديولوجيات عنصرية تقوم على التمييز بين الأفراد بناءً على العرق والدين.
لقد أصبح اليمين المتطرف يعبر بشكل صريح عن رغبة في مواجهة ظاهرة الهجرة، ليس من منطلق حماية الاقتصاد بل لحماية “الجوهر النقي للشعب” الألماني. وفي الوقت نفسه، تروج الأحزاب اليمينية في فرنسا واليونان وبريطانيا لشعارات تميز بين المواطنين استناداً إلى العرق والدين، مما يتعارض مع المبادئ التي تأسست عليها الديمقراطية، والتي يفترض أن تضمن المساواة لجميع الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم.
تُبرز هذه التطورات الحاجة الملحة لإعادة تقييم مبادئ الديمقراطية الغربية وكيفية تطبيقها في ظل الأزمات الحالية. هل ستتمكن أوروبا من استعادة القيم التي تم تجاهلها لعقود، أم ستضطر الإنسانية للبحث عن حلول جديدة لتجاوز هذا التحدي؟
درسان من أمريكا وفرنسا!
تعرف الدّول الدّيمقراطية الغربية التّقليدية تحوّلات ذات دلالات مستقبلية أكيدة. فالتحوّل الأول جاء من الولايات المتّحدة حيث لم تتمكّن الآلية الدّيمقراطية من منع وصول مرشّحين اثنين كلاهما مثير للجدل، والتحوّل الثّاني من فرنسا، حيث كادت اللّعبة الدّيمقراطية أن توصل حزبًا يمينيًا متطرّفًا إلى الحكم بما في ذلك من انعكاسات سلبية على السّياستين الدّاخلية والخارجية لهذا البلد، وعلى كلّ أوروبا ومنطقة المتوسّط وبخاصّة شمال إفريقيا.
القراءة الأولى لهذه التحوّلات تفيدنا ببعض النّتائج:
الأولى إيجابية ومفادها أنّه يمكن في تجربة ديمقراطية تفادي الأسوأ عن طريق الانتخابات بما فيها من تحالفات وتلاعب، وهذا ما يمكن استخلاصه من التّجربة الفرنسية. فبمجرّد أن لاحظ الرّئيس الفرنسي فوز اليمين المتطرّف في الانتخابات الأوروبية في بداية شهر جوان الماضي، حتّى اعتبر ذلك إشارة حاملة لمستقبل سيّء وسارع إلى حلّ البرلمان والدّعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة في التّاسع من الشّهر ذاته، أسفرت في دورتها الأولى على نتائج مخيفة بتقدّم اليمين المتطرّف، ولكنّها اعتدلت فيما بعد مناورة تكتيكية انتخابية بين التّحالف الرّئاسي والجبهة الشّعبية الجديدة اليسارية، أدّت إلى قلب الطّاولة على اليمين ووضعه في حالة عدم القدرة على تغيير المسار العام للدّولة الفرنسية القادر على التّأثير على طبيعتها الجمهورية وبخاصّة على مصالحها الخارجية.
النتيجة الثّانية سلبية ومفادها أنّ دولة ديمقراطية في حجم الولايات المتّحدة، عجزت عن إيجاد بدائل لمترشّحين اثنين أحدهما رفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات السّابقة واحتلّ أنصاره البيت الأبيض، والثّاني قرّر الانسحاب من السّباق لأنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّه لم يعد مؤهّلا، على الأقل صحيًا، لتولّي منصب رئيس أكبر دولة في العالم. والذي يتناقض كلّ التّناقض مع كلّ الخطاب السّياسي الأمريكي الأسبق الموجّه لبقية العالم والقائل بضرورة التّداول على الحكم، والسّاخر في بعض الأحيان من بعض تجارب حكم المتقدّمين في السّن غير القادرين على تحمّل المسؤوليات في هذا المستوى!
ومن التّجربتين، نستخلص أنّه لا وجود لخيار سياسي نموذجي في العالم يمكن اعتباره صالحًا لكلّ الدّول بما في ذلك الدّيمقراطية. فكلّ دولة ينبغي أن تنطلق من خصوصياتها لإيجاد ما يناسبها من نظام حكم وتحالفات وتغييرات، لا الصّين على خطأ، ولا روسيا على خطأ ولا إيران على خطأ، بالرّغم من أنّ الغربيين يصنّفون أنظمة هذه الدّول بغير الدّيمقراطية، كما أنّنا لا نستطيع وصف التّجربة الدّيمقراطية الفرنسية بغير السّليمة ولا التّجربة الأمريكية الحالية، كلّ له خصوصياته، وكلّ يتحرّك وفق معطيات داخلية وخارجية ومصالح مختلفة عن الآخر.
ليكفّ الجميع عن إعطاء دروس للآخرين، أو الدّعوة للاقتداء بهم، على كلّ تجربة أن تبرهن على كفاءة أداء نظامها السّياسي وفق خصائصها. الفرنسيون وجدوا حلًّا سلميًا لإشارة مستقبلية تهدّدهم من خلال اليمين المتطرّف، والأمريكيون وجدوا حلًّا لثنائية ترامب-بايدن، وكذلك فعل الصّينيون والرّوس والإيرانيون وغيرهم.
لماذا يدعّم الغرب اللاشرعية في فلسطين؟
لطالما أوجع الغرب رؤوس الشّعوب العربية والإسلامية بضرورة الحلول الدّيمقراطية، وبالبديل الدّيمقراطي القائم على أساس الانتخابات الحرّة والنّزيهة، لإحداث ما يسمّيه التّغيير الجذري نحو التقدّم والعصرنة وإقامة الشّرعية، بل ولطالما وضع ذلك كشرط من دونه لن يتمّ الرّضا عن أيّ نظام سياسي قائم! لماذا لا يتمّ اليوم الدّعوة إلى ذلك في فلسطين؟
لماذا يتمّ فرض الحلول بقوّة السّلاح ويجري تعزيز جيش الإبادة الصّهيوني لكي ينتصر سياسيًا؟ لماذا لا يقول الغرب اليوم إنّه ينبغي انتخاب حكومة – ديمقراطيًا- في غزّة وفي الضفّة الغربية؟ لماذا لا ترفع راية حريّة الاختيار للشّعوب عندما يتعلّق الأمر بفلسطين أو بأيّ شعب آخر بلغ درجة من الوعي أصبح فيها قادرًا على اختيار حكّامه؟ بل لماذا تزكّي المتغلّب من جهة والمفروض شعبيًا من جهة أخرى؟
ولماذا تسعى القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها أمريكا اليوم إلى فرض حكومة غير منتخبة ديمقراطيًا وغير شرعية على الشّعب الفلسطيني؟ أين هي المبادئ العالمية التي ما فتئت القوى الغربية مجتمعة تنصّب نفسها مدعّمة لها وحارسة عليها وحريصة على أن تعمّ العالم؟ أليس هذا سقوطًا آخر للقيم الدّيمقراطية الغربية أمام تحدّيات الواقع وحقيقة ما تريده الشّعوب؟
إنّهم يدركون اليوم، كما أدركوا من قبل بالنّسبة إلى القوى الوطنية المعارضة للنّموذج الغربي لدى الشّعوب العربية والإسلامية، أنّ الفلسطينيين لو سمح لهم باختيار من يمثّلهم في الحكم، بعد التّضحيات الجسام التي قدّموها في قطاع غزّة، وفي الضفّة الغربية والشّتات، لاختاروا رموز المقاومة تقودهم بكلّ شفافية وبكلّ نزاهة.
بل لو خُيّرت كلّ الأمّة الإسلامية اليوم، وسمح لها بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة كما يسمّونها، لاختارت رموز المقاومة والنّضال الوطني المناهض للتّغريب والمسخ والتّبعية للقوى الاستعمارية الظّالمة من بين كافّة البدائل.. لماذا يهرب الغرب من هذا الخيار في فلسطين بالخصوص ويعمل على مناصرة ودعم اللّاشرعية في قمّة تجلّياتها؟
يبدو أنّ اللّعبة باتت واضحة أكثر اليوم بشأن الدّعوة إلى الدّيمقراطية في العالم العربي والإسلامي، إنّها وسيلة لمنع التيّارات الوطنية الرّافضة للهيمنة الغربية والتّغريب من الوصول إلى الحكم في أيّ بلد من البلدان، وليست أبدًا وسيلة لإقامة الشّرعية. لقد رأينا ذلك يتجلّى في أكثر من بلد عربي ومسلم، ونراه يتجلّى اليوم في فلسطين بوضوح أكبر:
لا أحد من القادة الغربيين يتجرّأ ويطالب بانتخابات ديمقراطية في الضفّة الغربية والقطاع لحلّ مشكلة من يحكم في اليوم التّالي بعد حرب الإبادة التي مازال يدعمها في القطاع، ولا أحد منهم يدعو إلى ذلك، بل هناك شبه اتّفاق جماعي أنّ القيادة الفلسطينية ينبغي أن تصنع صناعة غربية على أيديهم ويتمّ فرضها فرضًا خارج الاختيارات الحرّة للشّعوب على يد الأمريكان الغربيين ومن والاهم.. وإذا اقتضى الأمر تفرض عبر الإبادة الجماعية إن أصرّ الشّعب الفلسطيني على خيار الكفاح المسلّح.. لذلك بات اليوم من الضّروري إدراج مثل هذا المطلب ضمن شروط التّفاوض بالنّسبة للمقاومة.. أن يحكم الشّعب الفلسطيني من يرضاه هذا الشّعب لا من تفرضه القوى الدّولية والمحلية، أن يحترم العالم إرادة الشّعب الفلسطيني وتضحياته الجسام، ألا يصادر هذه التّضحيات بفرض اللّاشرعية عليه بحجّة أنّها تستطيع توفير الغذاء والدّواء، وإن لم يفعل، على الأقل أن يتوقّف عن دعوتنا إلى تبنّي النّظام الدّيمقراطي، وأن يأمر أتباعه ممّن يعتبرهم رموز العمل الدّيمقراطي في بلداننا أن يكفّوا عن تذكيرنا بأنّ الدّيمقراطية على طريقتهم هي الحل.