الاستشراف والحوكمة الطاقية للانتقال الطاقي السويسري في أفق عام 2050
بعض الدروس المستفادة عربيا
د. قاسم حجاج
أستاذ – باحث في العلاقات الدولية – جامعة ورقلة الجزائرية
ملخص الدراسة:
بينما تقدم السلطات العمومية لمعظم دول العالم، رجلا وتقدم أخرى في طريق تبني استراتيجية مستقبلية وطنية للانتقال الطاقي، فإن بعض الدول تقدمت في هذا الاتجاه بنجاح يغري بالمحاكاة. ففي يوم 21 ماي 2017، صوت مواطنو دولة سويسرا الكونفدرالية ضمن استفتاء شعبي -عبر الاستبيانات العامة والانتخابات- بـ”نعم” بنسبة 58%، على مشروع الاستراتيجية الوطنية الطاقية إلى أفق عام 2050م.
وتشكل هذه التجربة الرائدة في مجال الحكم الراشد، والتي جمعت بين مساري: الاستشراف الاستراتيجي وممارسة الديمقراطية التشاركية في وضع أسس السياسة العامة لعملية “الانتقال الطاقي”، نموذجا جديرا بالدراسة والاحتذاء عربيا وعالميا، مع مراعاة الفوارق في الإمكانات والسياقات، طبعا.
الواقع، إن عملية وضع استراتيجيات الانتقال الطاقي مسألة مركبة ومعقدة للغاية، وهي لا تتم من دون مقاومات للتغيير الذي يطال السياسات الطاقية المعتمدة منذ أزيد من ستين عقدا، والتي تعتمد أساسا على المصادر الأحفورية.
ومنه، فإن هذه الورقة تهدف للإجابة على السؤال المعرفي والعملي التالي: ماهي معالم الخطة الاستشرافية الطاقية لعام 2050 المتبناة في دولة سويسرا، من أجل تحقيق انتقال طاقي مدروس وسلس؟ ؛ وكيف استخدمت السلطات العمومية السويسرية بنجاح أساليب الحكم الرشيد من أجل إقناع المواطنين بجدواها؟ ؛ وما هي إمكانية الاحتذاء بالتجربة الاستشرافية السويسرية في الانتقال الطاقي على مستوى الدول العربية؟
كلمات مفتاحية: الانتقال الطاقي، الاستشراف الاستراتيجي، الحوكمة الطاقية، سويسرا، الدول العربية.
مقدمة:
بينما تقدم السلطات العمومية لمعظم دول العالم، رجلا وتؤخر أخرى في طريق تبني استراتيجية مستقبلية وطنية للانتقال الطاقي، فإن بعض الدول تقدمت في هذا الاتجاه بنجاح يغري بالمحاكاة. ففي يوم 21 ماي 2017، صوت مواطنو دولة سويسرا الكونفدرالية ضمن استفتاء شعبي -عبر الاستبيانات العامة والانتخابات- بـ”نعم” بنسبة 58%، على مشروع “الاستراتيجية الوطنية الطاقية إلى أفق عام 2050م”.
واليوم، تشكل هذه التجربة الرائدة في مجال الحكم الراشد الاستشرافي والطاقي، والتي جمعت بين مساري: الاستشراف الاستراتيجي وممارسة الحوكمة الطاقية في وضع أسس السياسة العامة لعملية “الانتقال الطاقي”، نموذجا جديرا بالدراسة والاحتذاء عربيا وعالميا، مع مراعاة الفوارق في الإمكانات والعوائق والسياقات، طبعا.
الواقع، إن عملية وضع استراتيجيات الانتقال الطاقي مسألة مركبة ومعقدة للغاية، وهي لا تتم من دون مقاومات للتغيير الذي يطال السياسات الطاقية المعتمدة منذ أزيد من ستين عقدا، والتي طالما اعتمدت على المصادر الأحفورية والنووية. وتكتسي التجربة السويسرية في وضع استراتيجية للانتقال الطاقي، أهميتها عالميا، من كونها مخبرا عمليا يجدر محاكاته بذكاء، خاصة في الدول الشبيهة بخصائصها كدولة قارية، صغيرة فقيرة إلى الموارد الطاقية، ولكن معتمدة على قدراتها العلمية وإمكانياتهاوخبرات المجتمعية الذاتية، المراكمة عبر التاريخ. كما أن أهميتها تأتي أيضا، من نتائج الحوار العلمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، الذي طالما جمع فاعلي الأمة السويسرية ضمن ورشات النقاش المستمر، من أجل النظر معا بعلمية ومسؤولية ومشاركة ديمقراطية فاعلة، إلى المستقبل الطاقي الوطني المشترك.
ومنه، ستعالج هذه الدراسة، الإشكالية التالية: ماهي معالم الخطة الاستشرافية الطاقية لعام 2050 المتبناة في دولة سويسرا، من أجل تحقيق انتقال طاقي مدروس وسلس؟ ؛ وكيف استخدمت السلطات العمومية السويسرية بنجاح أساليب الحكم الرشيد من أجل إقناع المواطنين بجدواها؟ ؛ وما هي إمكانية الاحتذاء بالتجربة الاستشرافية السويسرية في الانتقال الطاقي على مستوى الدول العربية؟
ونفترض ابتداءا،”أن التجربة السويسرية في بناء سياسة عامة للانتقال الطاقي باستخدام ورشات الاستشراف الاستراتيجي الطاقي، استجابة لمعايير الحوكمة الطاقي، وأنه بالرغم من الفوراق الكائنة في مستويات وأولويات التطور الصناعي والحضاري في الحالتين، إلا أنها تجربة جديرة بالاحتذاء عربيا.” وسنتحقق من خلال منهج وصفي من مدى صدق هذه الافتراض. ولذلك هيكلنا الدراسة في المحاور الخمسة التالية:
أولا: السياقات والعوامل الدافعة لاستشراف الانتقال الطاقي في سويسرا ؛
ثانيا: مفهوم الانتقال الطاقي ووقفات عند سيرورات انتقال طاقي وطنية رائدة ؛
ثالثا: معالم الاستراتيجية المستقبلية للانتقال الطاقي في سويسرا لأفق 2050م ؛
رابعا: الحوكمة الطاقية السويسري: من الصياغة الاستشرافية إلى الاستفتاء الشعبي ؛
خامسا: بعض الدروس المستفادة عربيا من ورشات استشراف الانتقال الطاقي في سويسرا.
وهذا تفصيل محتوى الدراسة:
أولا: السياقات والعوامل الدافعة لاستشراف الانتقال الطاقي في سويسرا:
الحقيقة، تظافرت عدة عوامل حفزت على إطلاق سيرورة الانتقال الطاقي في سويسرا، حيث انطلق التفكير الجاد لاستشراف مستقبل الطاقة فيها منذ عقود. وقد تبلورت استراتيجية الطاقة لعام 2050 في سويسرا، تدريجيا وفي سياقات دافعة عديدة نذكر منها:
1-1)-سياق تتالي حوادث المفاعلات النووية وقدم المحطات النووية السويسرية:
إذا كانت كارثة انفجار المفاعل النووي لمدينة فوكوشيما اليابانية، إثر تعرضه لزلزال وتسونامي عظيم في الـ 11 مارس 2011، تمثل بالنسبة للسلطات الوطنية والرأي العام في الدول كافة، صدمة عظمى من زاوية الأمن الإيكولوجي الراهن والمستقبلي، فإن الصدمة كانت بالنسبة للسلطات السويسرية وسائر فاعلي عوالم الاقتصاد والمجتمع المدني والهيئات العلمية، الحدث القطيعة، والصدمة المحركة، حيث أصبحت بداية الإعلان الرسمي والشعبي الشجاع عن إطلاق سيرورة الانتقال الطاقي في أفق 2050.
الواقع، الصدمة المتعلقة بالأمن النووي والأيكولوجي بعيد كارثة فوكوشيما اليابانية، ليست الوحيدة بالنسبة لسويسرا: فتتالي الكوارث النووية المتعلقة بالأمن التقني للمفاعلات النووية، خاصة منها كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل بأوكرانيا السوفياتية سابقا، عام 1986 ؛ ثم أخيرا وليس آخرا، التسونامي الذي أتى على مفاعل فوكوشيما عام 2011 ؛ فضلا عن الحوادث المفاعلات النووية المتكررة في أوروبا في الجوار السويسري كفرنسا ؛ فضلا عن التخوفات المتزايدة من تداعيات محتملة لقِدم المفاعلات النووية السويسرية الخمسة التي بلغت سن الشيخوخة، وبداية العد التنازلي لتفكيكها، تمهيدا لدخول عصر ما بعد الطاقة النووية في سويسرا.
1-2)- تتالي الصدمات والصدمات المضادة النفطية وبدايات غروب حضارة الطاقة الأحفورية:
مع تحدي تتالي الصدمات النفطية في الدول المستهلكة للنفط (مثل سويسرا وألمانيا واليابان…) والصدمات المضادة النفطية للدول المنتجة للنفط، وذلك منذ السبعينيات إلى اليوم 2018 ؛ تأثرت سويسرا كبلد مستهلك للطاقة الأحفورية من حالة الاستقطاب الجيوسياسي، الناتجة عن احتكار القلة للدول النفطية النامية المنتجة للنفط(دول أوبيب وغير الأوبيب) من جهة ؛ واحتكار القلة للدول المصنعة المستهلكة للنفط، التي أنشأت “الوكالة الدولية للطاقة” عام 1974 إثر الصدمة النفطية الغربية الأولى، والتي اعتمدت استراتيجيات تنمية بدائل طاقية، من جهة أخرى.
كما تأثرت سويسرا بالمنافسة الشرسة خلال الفترة ما بين(2000- 2014م)، بين القوى الصناعية التقليدية الغربية الشمالية أساسا والقوى الصناعية الصاعدة الشرقية والجنوبية، على عدة مصادر للقوة منها مصادر الطاقة التقليدية الأحفورية، بما فيها تلك المستخرجة بتقنية التصديع الأفقي لاستخراج الغاز والبترول الصخري(Schist Gaz & Oil)، فضلا عن أهمية الطاقة المنتجة من الاندماج النووي، بدل الانفجار النووي. إلا أن الأهمية النسبية لهذه المصادر الطاقية التقليدية الملوثة، ما تفتأ تتراجع، مع استكشاف مصادر للطاقة غير الملوثة وبتقنيات اقتصادية كالطاقة الشمسية والرياحية والموجية والبيولوجية (النباتية والنفايات الصناعية والمنزلية).
ومنه، يتأكد تدريجيا بأن “الانتقال الطاقي” سيرورة جزئية هامة ضمن سيرورة انتقال حضاري، تاريخي عالمي أكبر، تبشر بتحول البشرية من نمط الحضارة المعتمدة طاقيا، على المصادر الأحفورية أساسا، إلى نمط الحضارة ذات المصادر الطاقية غير الأحفورية ؛ ومن مصادر الثروة المادية غير المتجددة غير المستدامة إلى مصادر الثروة المادية واللامادية المتجددة المستدامة. كل ذلك دفع نخب عدة دول -كسويسرا- إلى استباق نذر غروب حضارة المحروقات والاستعداد لاقتناص بشائرها وضمان استمرار مكانتها كدولة صناعية مزدهرة في حضارة ما بعد المحروقات، الصاعدة.
أو هو بعبارة أخرى، تحول ثقافي-حضاري كوكبي ينقل البشرية من حالة حضارية عالمية قائمة على محاكاة قسرية وإرادية لمسلمات النموذج الثقافي الحداثي الغربي، إلى حالة البحث العالمي المؤلم، عن مسلمات حداثية أو عبر حداثية جديدة ؛ ومنه، التحول الجاري من تثمين مكتسبات الثورات الصناعية السابقة منذ القرن السابع عشر، إلى مراجعة أخطائها وإفراطاتها وتزامن سيرورة الانتقال نحو ثورات صناعية ثالثة ورابعة، قائمة على المعارف والتكنولوجيات والطاقات الجديدة والمتجددة.
وفي هذا الصدد، يعتقد عالم الفيزياء الفلكية نيكولاي كارداشيف()، بأن هناك ثلاثة أصناف من الحضارة بداية من الحضارة الحالية ويعتبرها حضارة رقم صفر، ثم توقع أن تتنتقل البشرية نحو الحضارة من النوع الأول ثم الحضارة من النوع الثاني ثم حضارة النوع الثالث.
وقد وضع هذا التصنيف للحضارات خارج الأرض بناء على تطورها الطبيعي لاستهلاك الطاقة. حيث تعتمد الحضارة 1، 2، 3 على مصادر الطاقة من كوكبها + حضارة من النجم التابع لها + حضارة من المجرة التي تتبعها.
وينطلق في ذلك من أن لأي حضارة حاجة من طاقة تصل إلى 10 ملايير مرة أكبر من الحضارة التي سبقتها وينطلق من افتراض أن الاقتصاديات العالمية تنمو ببطء تبلغ 1% في العالم، ومن ثم سيصبح استهلاك الطاقة مماثلا أي 1%. وإذا استمرت الوتيرة على هذا الحال سوف تكون الحاجة من الطاقة من خارج كوكب الأرض تتجاوز ما ينتجه هذا الكوكب. ومن هنا يتوقع أن تلجأ البشرية إلى مصادر نجمية أخرى للبحث عن الطاقة، لتصل بالتالي إلى الحضارة من النوع الأول ثم الحضارة من النوع الثاني، لأن الحضارة يجب أن تتقن السفر إلى النجوم.
ويعتبر حضارتنا هي “الحضارة صفر”، لأننا ما زلنا نستعمل بقايا النباتات والحيوانات الميتة، قائلا: ” نحن أطفال بدأنا في التفكير بأن هناك حضارات في الكون العظيم “. وبالنسبة له الحضارة الصفر تشبه الطفل المذلل لا يتحكم في هيجانه، حيث ما يزال التاريخ المعاصر مليئا بالتميز العنصري، الأصوليات، الوطنيات المتطرفة ؛ وما تزال البشرية -رغم أنها نشأت منذ آلاف السنين- منقسمة على طول الخطوط، فما تزال الأمم فيها متنازعة حسب العرق، الدين، الوطن، الأمة ؛ وما نزال بالرغم من التحكم في إرسال المركبات والمحطات الفضائية، لا نستطيع حتى تأمين غذائنا وطاقتنا على الأرض ؛ وفي نفس الوقت بالتوازي مع خطوط التصدع أصبح العالم أكثر تعاونا بوجود تكامل بين الأمم ؛ لكن النخب الحاكمة تقاوم هذه الرغبة العالمية لخلق حضارة من النوع واحد على الأرض، رغم أنها تشهد أمامها ظاهرة ثقب الأوزون والانفجار الديمغرافي ونهاية حقبة الأمم وصعود الطبقة الوسطى وتقارب الثقافات.
إن الانتقال إلى النوع الأول من إنجاز حضارة كوكبية يتطلب عدة قرون من أجل استخراج مصادر الطاقة من المحيطات والغلاف الجوي وأعماق الكون. ويمضي كارداشيف في تحليل وتوقع الأنواع الحضارية الأخرى معتمدا على ما توصلت إليه علوم الفيزياء والفلك…
1-3)- تزايد مؤشرات الاختلال المناخي الكوكبي وتتالي قمم المناخ منذ 1992:
منذ صدور تقرير نادي روما عام 1970 حول حدود النمو، وتقرير برانتلاند الأممي حول التنمية المستدامة عام 1987 ؛ ومع تأكد مؤشرات حدوث الاختلالات المناخية كوكبيا، تتالت قمم الأرض والاستدامة والمناخ، منذ قمة الأرض بالبرازيل جوان 1992، إلى قمم المناخ المتتالية وأهمها قمة كوبنهاجن المناخية الأممية لعام 2009 وقمة المناخ الأممية للمناخ بباريس لعام 2016.
وفي كل مرة يزداد التأكد في سويسرا وفي غيرها من دول العالم شمالا وجنوبا، من حقائق تلك الاختلالات البيئية والمناخية، ممثلة في الفيضانات والأعاصير والحرائق المدمرة المتكررة ؛ التصحر المتزايد ؛ شح المياه وموجات الجفاف طويل المدى ؛ المجاعات وأزمة الغذاء ؛ اللجوء والهجرة المناخيين داخل وخارج البلدان ؛ التلوث بكافة أشكاله ؛ العنف الحضري والأهلي ؛ التضخم المزمن والمتزايد …الخ. وهي مظاهر وآثار ناتجة عن عدة عوامل منها: عولمة نمط رأسمالي استهلاكي غير بيئي وغير مستدام ؛ وعدم تحمل إدارات الشركات الاقتصادية العامة والخاصة مسؤولياتها في حماية البيئة، وغيرها.
1-4)- التحول الكبير من النسق الدولي الويستفالي إلى النسق الدولي المعولم الما بعد ويستفالي:
تأثر التحول الكبير المتدرج للنسق الدولي كثيرا بتداعيات ديناميكية العولمة كسيرورة موضوعية، تاريخية ومستمرة ؛ وبتداعيات أزمات العولمة النيولبرالية كإرادة لقوى معولمة معينة، منذ آخرها أزمة الرهون العقارية في أكتوبر 2007 ؛ تحول يتزامن أيضا مع تغير مركز الرأسمالية العالمية من البلدان الصناعية الأوروبية الأصل، إلى البلدان الصاعدة في الشرق الأسيوي والباسيفيك ؛ أي تحول -غير مكتمل حاليا- من النسق الدولي الأحادي القطبية المؤمرك إلى النسق الدولي المعولم المتعدد الأقطاب ؛ وهو تحول يجري، على صفيح ساخن من التوترات والرهانات الجيوسياسية والجيواستراتيجية والجيواقتصادية والجيوثقافية المتتالية والمتسارعة.
ومنه، تفسير ما نشهده من تنافس بين القوى الصناعية الكلاسيكية والقوى الصناعية الصاعدة على افتكاك حالات احتكار القلة وضمان حصص مربحة لأجيالها في الأسواق الناشئة لتكنولوجيات الطاقة الجديدة والمتجددة، وكسب قصب السبق في وضع معايير تكنولوجيات وتشريعات هذا الانتقال الطاقي المؤلم والواعد في نفس الوقت.
ثانيا: مفهوم الانتقال الطاقي ووقفات عند سيرورات انتقال طاقي وطنية رائدة:
تأتي سيرورة “الانتقال الطاقي” العالمية الراهنة، في سياق تحول حضاري عظيم، يؤسس لإطار معرفي أو في “بارادايم” جديد، ناظم لفلسفة ومنهجية النظر إلى المعضلة الطاقية الخاص بالحضارة الكوكبية المستقبلية، بغض النظر عن اختلاف مستويات المسؤولية والقدرة لدى الدول المختلفة بضرورة بدأ التغيير الآن، وليس غدا.
فقد بدأ منذ 1980، في كل من ألمانيا والنمسا، تداول مفهوم “الانتقال الطاقي”، ليعبر في العقود الثلاثة التالية، عن استراتيجيات وسياسات وبرامج متكاملة لتحول تنموي جديد تجري محاكاته عالميا، ابتداء من حلقة الاستثمار والبحث العلمي والابتكار التكنولوجي والإنتاج الطاقي، وعبر حلقة التخزين والتوزيع، فحلقة الإستهلاك الطاقي.
ويشير مفهوم “الانتقال الطاقي”()، إلى اتجاه السياسات والسلوكيات الاستثمارية والاستهلاكية العمومية والخاصة، نحو الانخراط التدريجي في سيرورة إقامة نظام طاقي وطني وكوكبي مستدام، غير ممركز ومنصف. نظام، يعتمد أساسا على استخدام الطاقات المتجددة. وهو مفهوم يستخدم إجرائيا، حسب طبيعة العوامل المتحكمة في بنية النظام الطاقي لكل بلد، للدلالة على إرادة ديمقراطية تشاركية للتخلي التدريجي، فالكلي، عن الاعتماد على المصادر الطاقية الأحفورية والنووية أو أحدهما على الأقل ؛ مع تنمية المصادر الطاقية الجديدة والمتجددة، الأمنة اقتصاديا وإيكولوجيا وصحيا وجيوسياسيا ؛ مرفوقة بإجراءات لزيادة الفعالية الطاقية وترشيد الاستهلاك الطاقي، وتحقيق حالة من اللامركزية والتوزان بين بالأبعاد الأيكولوجية والمناخية والاقتصادية والاجتماعية، المفضية إلى تحقيق حالة تنموية بديلة تأخذ معنى “التنمية المستدامة”، أو “التنمية الخضراء”، خاصة فيما يتعلق بحل معضلة التزود الآمن والدائم بالطاقة وتلبية حاجات الاستخدامات المنزلية والصناعية والحضرية على السواء ؛ ومنه، التقليل من حالة التبعية الوطنية طاقيا، وزيادة القدرة التنافسية بتخفيض الفاتورة الطاقية ؛ ومنه أيضا، زيادة الوعي المواطني والحكومي بضرورة التخفيف من آثار “البصمة الأيكولوجية” على التوازنات الأيكولوجية والمناخية والاقتصادية الاجتماعية لكوكبنا-الوطن ؛ ولذلك تسمى أيضا سيرورة “انتقال طاقي وإيكولوجي”.
ومن رهانات هذه الثورة الصناعية الجديدة: حماية المناخ الكوكبي، الذي لا يعبأ بالحدود الجيوسياسية الوطنية للدول، والتقليل من الاستهلاك الطاقي، وإقامة حالة من التنمية المنصفة لكافة شعوب الأرض، التقليل من التوترات الجيوسياسية المرتبطة بالصراع الدولي على الطاقة، ولم لا الخروج الكلي ولو بعد حين من الاعتماد على الطاقة النووية، والكفاح ضد ارتفاع الحرارة الكوكبية.
في هذا السياق الحضاري الوطني والكوكبي المعولم، تشكلت في أكثر من بلد صناعي ونامٍ، استجابات إيجابية، متفاوتة الوتيرة والإرادة السياسية والفعالية التقنية والاقتصادية، لمواجهة تداعيات الاختلالات المناخية والأيكولوجية المرتبطة أساسا بالنمط الأحفوري والنووي للتنمية الطاقية المهيمن عالميا، مرورا بنقاشات ومفاوضات شاقة بين القوى السياسية والنقابية وعالم الأعمال وفواعل المجتمع المدني، التي شكلت ضغوطات لوبياتها ومطالب مظاهراتها ومقترحات عرائضها واستفتاءات مواطنيها ديناميكية مجتمعية غنية بالدروس:
فالنموذج الألماني() يعد ابتداءا، نموذج رائد وجدير بالدراسة والإفادة من دروسه، لأنه يبدو مخبرا عمليا متقدما، في مجال سيرورة الانتقال الطاقي، انطلق كتصورات منذ 1980، وتأكد كإرادة سياسية وتنموية ميدانية منذ عام 1990 –خلال حكم المستشارين كوهل وشرودر وميركل على التوالي- عندما اتخذت قرارات استراتيجية للخروج التدريجي المزدوج من الطاقة النووية والأحفورية ؛ وبالمقابل تم تبني نموذج المزيج الطاقي(فحمي وغازي وشمسي وبيولوجي ورياحي)، كنموذج طاقي انتقالي، زادت وتيرة العمل به بعيد كارثة فوكوشيما عام 2011. فقد كانت الطاقة الكهربائية المنتجة من المفاعلات النووية تشكل عام 2010 حوالي 27%، لتصل عام 2016، بعد تطبيق الإجراءات التشجعية للطاقات البديلة، إلى 13% مع التكفل المالي والتقني الصعب بتكاليف تفكيك المفاعلات وتخزين نفاياتها الضارة ؛ مع السعي لتخفيض استخدام طاقة الفحم بالتفاوض مع النقابات المتخوفة على مناصب الشغل المهددة ؛ مع إنشاء صندوق مالي يتولى تمويل الإجراءات الانتقالية. ومنه، أصبحت الطاقات المتجددة تمثل عام 2016 حوالي 29.5% من مجمل الطاقة الكهربائية المنتجة، مع استهداف تحقيق نسبة 45% في أفق عام 2025 فقط، ملتزمة وفق اتفاقية باريس المناخية، بتخفيض يصل نسبة 40% من حجم انبعاثات غازية كربونية في أفق 2020، و90% في أفق 2050.
فضلا عن النموذج الياباني() الذي يعد تسونامي عام 2011 وتداعياته الأمنية الأيكولوجية والطاقية، نقطة فاصلة بين ما قبل وما بعد كارثة فوكوشيما، حيث بدأت التوجهات العامة للسياسة الطاقية تنقلب رأسا على عقب، لتنقل البلد تدريجيا -بفضل القاعدة البحثية المختبرية- نحو الكل طاقي نووي إلى الكل طاقي متجدد. ففي عام 2010، كانت الاستراتيجية اليابانية لعام 2030، عازمة -على النقيض من الوضع التالي لعام 2011- تسعى لبناء تسع مفاعلات نووية إلى أفق 2020، وأربعة عشر أخرى في أفق 2030، لتغطية 50 بالمائة من حاجاتها الطاقية، لحل معضلة التبعية الطاقية للخارج، وذلك في ظل تصاعد أسعار النفط في الأسواق العالمية بسبب النهم الصيني والنزاعات الجيوسياسية حوله. قبل 2011 كانت الطاقة المنتجة من المصادر المتجددة تمثل فقط 8% من الطاقة المنتجة في البلد، بينما تمثل الطاقة النووية 30% وبالنفط 42.5% والباقي منتح من الفحم والغاز المسال. ولكن منذ أوت 2011 أقرت السلطات اليابانية تشريعا لتنمية الطاقات الخضراء النظيفة والآمنة، الشمسية والرياحية، تؤسس لاستراتيجية المزيج الطاقي المتعدد المصادر، مستهدفة إنتاج 20% من مجمل الحاجات الطاقية لليابان في أفق 2020، من المصادر الخضراء، مع تركيب 10 ملايين لوحة شمسية في أسطح المنازل والعمارات في أفق 2030. ومع أن اليابان تملك 54 مفاعلا نوويا، متمركزا في 18 موقعأ، فقد أذنت السلطات -بسبب رفض رؤساء البلديات وتنامي تخوف المواطن الياباني- بتشغيل 3 مفاعلات بنسبة 100% من طاقتها الإجمالية، مع التوقيف النهائي عن الخدمة لـ 15 منها. بينما أجلت تشغيل 36 منها. وفي جويلية 2015، وتماشيا مع التزامات اتفاقية باريس حول المناخ العالمي، أقرت حكومة شينزو أبي/ Shinzo Abeاستراتيجية تستهدف تخفيض الاستهلاك الكلي للطاقة بنسبة 15%، خاصة الطاقات المنتجة من المصادر غير الآمنة، برفع الفعالية الطاقية إلى 35%، وغيرها من الإجراءات التشجيعية الجديدة للتوجه نحو الطاقات البديلة.
وفي فرنسا() القوة الطاقية النووية الثالثة في العالم، وفي ظرف اقتصادي انتقالي متأزم، يتميز بتنامي العجز في التوازنات الاقتصادية الكبرى(2008-2018)، قانونا يحمل اسم “قانون الانتقال الطاقي والتنمية الخضراء” في أفق عام 2050، تحت رقم: 2015-992، المؤرخ في 17 أوت 2015. ويتضمن ثمانية أهداف استراتيجية يراد تحقيقها، منها: التقليل من انبعاثات الغازية الكاربونية على أربع مراحل، والتقليل من الاستهلاك الطاقي من المصادر الأحفورية بنسبة 30 بالمائة من حالتها عام 2012، ورفع نسبة الاستهلاك من الطاقات المتجددة المصدر، بنسبة 30 بالمائة عام 2030 ؛ التخفيض من الاعتماد على الطاقة الكهربائية ذات المصدر النووي إلى 50 بالمائة في أفق عام 2025 ؛ زيادة جودة البناءات للتقليل من استهلاك الطاقة ؛ الكفاح ضد الهشاشة الطاقية والتأكيد على الحق في الوصول إلى جميع المصادر الطاقية النظيفة من دون تكاليف باهضة ؛ وأخيرا التقليل من إطلاق النفايات المختلفة.
بينما، صوت الإيطاليون في عهد بيرلسكوني، لصالح التخلي عن النووي منذ عام 1987، بعيد كارثة تشيرنوبل، ثم تأكد ذلك في استفتاء 2011، بنسبة 95%. أما النمسا فقد قررت التخلي عن الطاقة النووية منذ 1978، ومنعت شركاتها منذ 2012 من استيراد الطاقة النووية من الخارج في أفق عام 2015. كما اتخذت الدانمارك تحقيق نسبة 100% طاقة بديلة في أفق 2050. بينما تمكنت كوستاريكا، ذات الخمسة ملايين نسمة، في أمريكا الوسطى -كنموذج للبلدان النامية غير النفطية- من تغطية كافة حاجاتها من الطاقة الكهربائية، من مزيج المصادر الطاقية المتجددة(). ولا شك أن التوقف عند النماذج الصينية والأمريكية والقطرية والإماراتية والتايلاندية والمغربية، وغيرها، جدير المقاربة العلمية المقارنة لاستراتيجياتها الخاصة بالانتقال الطاقي، للاستفادة من كل من النجاحات والمقاومات المسجلة في كل منها.
وبالمثل شهدت سويسرا إثر صدمة فوكوشيما النووية، سلسلة من عواصف الأفكار التقييمية النقدية والتقويمية للوضع الطاقي القائم، وذلك ضمن ورشات استشرافية متعددة التخصصات والفاعلين للنظر في المآلات القريبة والمتوسطة والطويلة الأمد للتنمية الطاقية الوطنية المعولمة.
ولوضع استراتيجية طاقية تمتد إلى عام 2050، شاركت الحكومة الكونفدرالية مجموعة من الكفاءات السويسرية، انصهرت ضمن ديناميكية كانت قد بادرت إليها منذ عام 2007، “جمعية الحوار الثلاثي حول طاقة سويسرا/(ETS=Energie Trialog Schweiz)”()، التي تأسست بهدف رئيس يتمثل في “تطوير رافعات لسياسة طاقية مستدامة وتنافسية”. وتقوم فكرة “خزانة الأفكار/Think Tank” هذه، على إيجاد فضاء للحوار الثلاثي الأبعاد والفاعلين، حوار يشيد على أرضية الوضعية الراهنة للمعارف العلمية التي ينتجها بطرقة مهنية ممثلو العلم والمجتمع المدني والشركات الاقتصادية. ولذلك انطلق “الحوار الثلاثي حول طاقة سويسرا” فعليا عام 2008، جامعا بين أهل العلم، ممثلين في الخبراء الدوليين والوطنيين ؛ وأهل الاقتصاد، ممثلين في مدراء الشركات والاتحادات المهنية ؛ وأهل المجتمع المدني والسياسي، ممثلين في رجال السياسة وكوادر الإدارة وخبراء المنظمات غير الحكومية. وقد شارك في العمل التفكيري الاستشرافي 180 شخصية، فأدلى كل بطريقته وبعلمه وبخبرته في وثيقة علمية عملية مرجعية، أصبحت أساسا لمبادرة الحكومة والبرلمان السويسري بقانون “استراتيجية الطاقة لعام 2050” ؛ الذي طُرح موضوعه على الشعب السويسري، ليتحاور طويلا بشأنه بين مؤيد ومعارض، مستفسرا عن جدواها وكلفتها وآلياتها ومآلاتها، ثم استفتي أخيرا بشأنها في 21 ماي 2017.
ورغم أن ديناميكية التفكير الاستشرافي في الانتقال الطاقي قد انطلقت في سويسرامنذ 2008، إلا أنها أخذت زخما متسارعا ومكثفا بسبب الحدث الدولي المحرك، ممثلا في تردد الأصداء الإنسانية والإيكولوجية العابرة للحدود الوطنية لكارثة فوكوشيما النووية خلال عام 2011 ؛ فكان فحوى القرار السياسي للحكومة الكونفدرالية في نفس السنة: “لنتوقف تدريجيا عن إنتاج الطاقة الكهربائية من المصادر النووية، ولنبدأ الانتقال الطاقي بتنمية مصادر الطاقات الجديدة والمتجددة”. ومن هنا، ضرورة التعرف على فحوى هذه الاستراتيجية الطاقية في سويسرا.
ثالثا: معالم الاستراتيجية المستقبلية للانتقال الطاقي في سويسرا لأفق 2050
معروف لدى المتخصصين أن للدراسات المستقبلية شروطا كثيرة منها توفير: المعرفة، الخبرة، المنهجية، المعلومات، التفكر الحر، التمويل، التكنولوجيا، القرار السياسي. كما أنها تتطلب ممن يتصدى لها أن يكون -حسب المستقبلي الفرنسي المعاصر ميشال غودي()- ذا نظر منهجي، استباقي، طويل المدى، واسع، شامل، عميق، تشاركي، إنساني، متمرد، ناقد، مُخاطر، وأخيرا، بنّاء لمشاريع تغييرية عملية. وبما أن العمل الإستشرافي المحترف هو عمل جماعي، تراكمي، ومن الإطلاع على التجربة السويسرية مع بناء “استراتيجية الطاقة لعام 2050” نستقرئ مدى استيفائها لشروطه الموضوعية.
ومما يتفق عليه دارسو العلوم السياسية والدستورية والأمنية والإدارية أن الأجهزة الحكومية المركزية في جميع البلدان هي من يتولى رسم السياسات العامة المتعلقة بجميع القطاعات وفق تقاليد مؤسسية متفاوتة في مستوى تطور صياغتها العلمية وحوكمتها المواطنية، وفي مدى فعالية تنفيذها في أرض الواقع.
ولكن من مميزات البلدان المتقدمة أنها تسند المهام التي تتطلب جهدا تفكيريا علميا إلى الهيئات الخبيرة، وكذلك كان الأمر مع التجربة السويسرية حول بناء استراتيجية للطاقة لعام 2050م. تماشيا مع أصل أن تكون مهنة السياسة ومهنة الاستشراف في حالة تكامل، وذلك في صالح الإثنين. كما أن الأصل أن السياسة تنشد الإتيان بجديد في مستقبل الأيام ؛ أي تحمل مشروعا تغييريا ؛ وبالمثل يستهدف الفعل الاستشرافي الكشف عن تنوع تلك المستقبلات والمشاريع، ومدى احتمالية تحقق كل منها()، ولكن من دون التزام ومسؤولية سياسيين مباشرين، تجاه الرأي العام المواطني.
ومن أهم السياسات العامة القطاعية في أي بلد في التاريخ هي سياسة الطاقة والأمن الطاقي، فالطاقة عصب الحياة سلما وحربا، ومن أهدافها الأساسية: تأمين التزود بالطاقة ؛ الأمن التقني ؛ احترام البيئة ؛ الفعالية الاقتصادية.()
بداية، انطلقت سيرورة الاستشراف الطاقي السويسري، من مبادرة تصدت لها “جمعية الحوار الثلاثي حول طاقة سويسرا”، فانطلقت من تشريح موضوعي للواقع الوطني والدولي الراهن عام 2008، مستهدفة بالاستشراف الاستراتيجي (استشراف+ تخطيط استراتيجي)، الأزمنة الاستشرافية المباشرة والقريبة والمتوسطة والطويلة الأمد، في آفاق أعوام 2017 و2020، و2035 و2050.
ومن أبجديات تشريح الوضع الراهن السويسري الاعتراف بأن دولة سويسرا بلد صناعي متقدم، لكنه أيضا صغير وفقير في الموارد الأولية وشديد الاندماج في الاقتصاد العالمي، أي شديد التأثر بتقلبات أسواق الطاقة، شأنها في ذلك شأن اقتصادات الدول الشديدة الانفتاح على السوق الخارجية تصديرا واستيرادا أو هما معا.
ويتوقف الإبقاء على الازدهار الحالي للشعب السويسري، على ضمان السبل المثلى للتزود طاقي المؤكد خلال العقود الثلاث والأربع القادمة. بينما يواجه البلد تحديين شاملين وكبيرين يمكن أن يجهزا على الوضعية التنموية الراهنة الإيجابية، التي تنطلق سويسرا منها، بتفاؤل نحو المستقبل.
وبما أن الطلب الكلي على الطاقة سيزداد في العقود القادمة، لأن عدد سكان العالم ما يفتأ يتزايد، فإن مستوى استهلاك الطاقة سيرتفع بمعنى مطلق وبالنسبة لكل فرد ؛ لذلك سينتج عن ذلك حالة تنافسية صعبة في مجال التزود بالطاقة ؛ وهذا بغض النظر عن التراجع الحالي الموقوت في الطلب والأسعار. وبالموازاة مع ذلك، يشكل الاحترار المناخي، مخاطر كبرى إيكولوجية واقتصادية واجتماعية وأمنية. وبما أن القرارات حول السياسات الطاقية على المستوى الدولي سيكون لها أثر مباشر على السياسة الطاقية السويسرية. ومنه، فإن السياسة الطاقية هي أيضا سياسة مناخية واقتصادية واجتماعية على السواء.()
وبما أن سويسرا ليست جزيرة، لذلك كان عليها أن تضع في الاعتبار حالة العولمة والاعتمادات المتبادلة، بمخاطرها وفرصها(). وبالنظر لهذه الوضعية الراهنة، فقد رأت “جمعية الحوار الثلاثي لطاقة سويسرا” أن الحوار حول السياسة الطاقية كان يجري في أطر ضيقة جدا، وأنه لا يتخذ منظورا شاملا للنظام الطاقي ؛ وأن المصالح الخاصة المحدودة، المركزة على الآجال القصيرة تهيمن على النظر إلى الحلول البعيدة المدى.
ولذلك بنت الجمعية منذ 2008 إلى 2017، بالشراكة مع الأجهزة الفدرالية الحكومية وسلطات بعض الكانتونات، إجماعانسبيا كافياحول الأهداف التي ينبغي التركيز عليها في أفق2017 و2020، و2035 و2050. وقد اعتبرت “جمعية الحوار الثلاثي لطاقة سويسرا”، أن الحديث عن هذه الاستراتيجية يعني العمل على القيام بتعديل معتبر للنظام الطاقي السويسري الراهن الموروث منذعدة عقود.
إذا، الوضعية الراهنة تشكل تحد كبير للجميع، وتتطلب استجابة مكافئة تتمثل في نظر الجمعية في البدء الفوري بـ”إصلاح وتعديل عميق للنظام الطاقي” السويسري. الذي يبدو غير قابل للديمومة. ومن أجل الاستجابة للتحديات الشاملة، وجهت الجمعية إلى ضرورة المزاوجة بشكل واسع بين النمو الاقتصادي والاستهلاك الطاقي، مع تخفيض الإنبعاثات الكاربونية لـ CO2، الناتجة عن النظام الطاقي السويسري الراهن. وأنه لابد من اعتماد سياسة طاقية جديدة من أجل إفادة الأجيال المستقبلية من إطار نوعي عالي للحياة. وأنه لابد لتحقيق ذلك من بلورة رؤية طويلة المدى، ولابد من أهداف أو مؤشرات قابلة للقياس على المدى المتوسط وتدابير فعالة على المدى القريب.
ومنه كان لابد على ورشات الاستشراف الطاقي السويسرية – قبل أن تضع سيناريوهاتها المستقبلية – من العودة إلى تاريخ الإنتاج والاستهلاك الطاقي في سويسرا منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى(1910-2008)، وعبر التركيز على العوامل الطاقية المختلفة ؛ مستخرجة الاتجاهات التاريخية الثقيلة للإنتاج والاستيراد والاستهلاك الطاقي السويسري.
فقد تضاعف استهلاك سويسرا من الطاقة بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية. حاليا، عملية التزود بالطاقة يعتمد في 68% ؛ منه، على الطاقات الأحفورية. وخلال الأعوام الأخيرة تمكنت سويسرا من ضبط استقرار الاستهلاك، ولكن بدأ اتجاه تصاعدي لاستهلاك الطاقة يعود من جديد.
فقد تطو نمو استهلاك الطاقة في سويسرا من 1910 إلى 2008 حسب مصاردها الأساسية على النحو التالي:
نمو استهلاك الطاقة الكهرمائية بـ 23.5% ؛
نمو استهلاك الطاقة الغازية بـ 12.3% ؛
نمو استهلاك البنزين الأحفوري بـ 33.1% ؛
نمو استهلاك البترول بـ 22% ؛
وبنسب أقل نما استهلاك الطاقة الفحمية والمستخلصة من النفايات الصناعية والخشب…الخ()
وعلى ضوء ذلك التشريح للوضع الطاقي التاريخي والراهن في سويسرا والعالم، ومن أجل بناء سينايوهات المستقبل الطاقي لسويسرا 2050، انطلق واضعو استراتيجية الانتقال الطاقي من فرضيتين أساسيتين مفادهما:
أ)- أن التطورات التقنية الضرورية لإنتاج تكنولوجيات مفتاحية في هذا المجال، أضحت متوفرة ؛
ب)- أن الانتقال الطاقي سيحصل في إطار سياسة طاقية ومناخية منسقة على المستوى الدولي ؛ أي أنها افترضت أن جميع الدول ستنتهج نفس السياسة الطاقية التي تنتهجها سويسرا.
ومنه، بنت الدراسة الاستشرافية سيناريوهاين كبيرين يتضمن الثاني منهما ثلاثة سيناريوهات فرعية، لمستقبلات السياسة الطاقية والمناخية لسويسرا، وهي باختصار ودون أن نأتي على بعض الدراسات الناقدة لها()، كالتالي:
1)- سيناريو “مواصلة السياسة الطاقية الراهنة”:أي سيناريو مواصلة تطبيق اتفاق كوبنهاجن()(السيناريو الاتجاهي): وهو سيناريو اعتمد قبل اعتماد استراتيجية الانتقال الطاقي لعام 2050، التزمت سويسرا بإرادة ذاتية، بمبدأ تخفيض بنسبة 23% من نسب الغازات الدفيئة لثاني أوكسيد الكاربون(CO2)، بالنسبة لمستواها لعام 2000. ويتطابق هذا السيناريو مع فلسفة السياسة المناخية المنتهجة حسب القانون المعدل حول ثاني أوكسيد الكاربون (CO2)() ؛
2)- السيناريو الثاني: سيناريو السياسة الطاقية الجديدة(NPE)/ (السيناريو الاصلاحي): أو هو سيناريو فرض ضريبة مرتفعة على انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكاربون(CO2) ؛ وهو يتفرع بدوره إلى ثلاثة سيناريوهات فرعية، هي:
2-1)- السيناريو الثاني(س2أ)(): أي سيناريو فرض ضريبة المقدرة بـ1140 فرنط سويسري/ طن واحد من غاز ثاني أكسيد الكربون(CO2)،وذلك بعد عام 2020. ويعفى من تلك الضريبة حوالي 50 موقعا إنتاجيا ذي إنبعاثات كثيفة من غاز ثاني أوكسيد الكاربون(CO2)، (أي حوالي 8 بالمائة من الإنبعاثات الكاربونية السويسرية)، التي ستفرض عليها ضرائب تصل إلى 70 يورو، على كل طن واحد، وذلك لعلاقات تلك المواقع الإنتاجية بالنظام الأوروبي لتبادل شهادات السلامة المناخية(EU-ETS). وهذا السيناريو يتطابق مع المرحلة الثانية للاستراتيجية الطاقية لعام 2050م، التي اعتمدها المجلس الكونفدرالي، ولكن من دون الخروج الكلي من حالة الإنتاج الطاقي النووي.
2-2)- السيناريو الثاني(س2ب): وهو سينايو التخلي التدريجي عن الطاقة النووية، وتعويضها بالغاز الطبيعي: هذا السيناريو مشابه للسيناريو الثاني(2أ)، حيث ستعوض الطاقة النووية المنتجة في سويسرا بالمحطات الطاقية المنتجة بالغاز الطبيعي، ولكن الانبعاثات الكربونية تظل متصاعدة. وإن حدث أن ظلت السياسة الطاقية من دون تعديل، فستكون النتيجة حدوث ارتفاع كبير للتكاليف الطاقية.
الواقع، يتطابق هذا السيناريو مع السيناريو الثالث المسمى بـ”السيناريو(2ج) =(الأحفوري– الممركز)/(ScénarioC= Fossile-Centralisé)، من بين سيناريوهات “السياسة الطاقية الجديدة”، التي وضعت حساباتها الكونفدرالية. ()
2-3)- السيناريو الثاني الثاني(س2ج): وهو سيناريو التخلي التدريجي عن الطاقة النووية، مع تعويضها بطاقة الغاز الطبيعي والطاقات المتجددة: وهو سيناريو مشابه للسيناريو الثاني(2ب): حيث تضاف إلى التكاليف السابقة تلك التي تتعلق بعمليات الربط بالطاقات المتجددة. ويتطابق هذا السيناريو مع السيناريوهيين: C&E: أي سيناريو الأحفوري الممركز(Fossile-Centralisé) والسيناريو الطاقات المتجددة.()
وبعد هذا التشريح التاريخي والراهن للوضعية الطاقية في سويسرا الحديثة والمعاصرة، وبعد أن انتهت “ورشات الاستشراف” من وضع السيناريوهات الطاقية المستقبلية ؛ شرعت “ورشات التخطيط الاستراتيجي” ؛ في بناء أربعة أهداف كبرى لـ “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، وهي:
أ)- مواصلة إغناء فرص ازدهار المجتمع وضمان نوعية حياة عالية للأجيال الحاضرة والمستقبلية ؛
ب)- ضمان إتاحية، وإيصال واستخدام فعال ورشيد للطاقة ؛
ج)- حماية البيئة والمناخ وتفادي الآثار السلبية على البيئة والإنسان ؛
د)- تقوية تنافسية الاقتصاد السويسري.()
وهي تمثل -في نفس الوقت- الأركان الأربعة لـ “الاستدامة/Durability”، ممثلة في:”التنافسية” و”حماية البيئة والمناخ” و”ضمان نوعية عالية للحياة” و”إغناء الفرص الاجتماعية”. ولتحقيق تلك الأركان الأربعة للاستدامة استخرج المخططون منها ثمانية أهداف أو تدابير عملية قابلة للقياس:
حيث يقتضي تحقيق الركن الأول للاستدامة وهو “نوعية عالية للحياة”، أن تستمر سويسرا في المستقبل المتوسط والبعيد بلدا منتميا إلى مجموع البلدان المتمتعة في مضمار مؤشرات السعادة الخام، ومنه ضرورة اقتراح خدمات طاقية نظيفة.
ويقتضي تحقيق الركن الثاني للاستدامة وهو “التنافسية”، العمل خلال الأعوام القادمة على زيادة كلية للفعالية الطاقية، وذلك نحو تحقيق تخفيض سنوي للكثافة الطاقية النهائية إلى حدود 1.8% ؛ مع تقوية ديناميكية الابتكار والجاذبية للاقتصاد السويسري، أي تحقيق النمو الاقصادي، الذي ينبغي أن يرتفع إلى 1.5% سنويا على المدى الطويل ؛ مع التأمين العالي لعملية التزود بالطاقة ؛
بينما يقتضي تحقيق الركن الثالث للاستدامة وهو “حماية البيئة والمناخ” أن تواصل سويسرا في المساهمة في عدم تدهور القدرات الإيكولوجية للكوكب، بحيث يسهم التقدم التكنولوجي في استخدام مستدام للموارد الطبيعية. ومنه، سيكون على سويسرا أن تسهم في استقرار حالة الاحترار المناخي الكوكبي في حد أقصى لا يزيد عن °C2.0 درجة مئوية، أي أعلى من متوسط الفترة السابقة للعصر الصناعي الحديث. ومنه، سيكون عليها أن تلتزم بتخفيض انبعاثاتها الكاربونية الوطنية بالنسبة لعام 1990، على الأقل بنسبة 25%، في أفق عام 2020، وبنسبة 50% في أفق 2035، وبنسبة 80% في أفق 2050.
وأخيرا، يقتضي تحقيق الركن الرابع للاستدامة وهو “إغناء الفرص الاجتماعية”. حيث أن لا تثقل التدابير العملية للانتقال الطاقي، من النسب والحصص الضريبية، التي ينبغي أن تراعي التفاوتات الاجتماعية في عملية إعادة توزيعها، وذلك على المديين القريب والمتوسط ؛ مع مرافقتعا بالاستثمارات الحكومية الإضافية الضرورية لتسريع عملية تعديل النسق الطاقي بكل أبعاده التقنية والمالية والقانونية والاجتماعية. ومنه، لابد أن تؤدي تلك الاستثمارات العمومية إلى تحقيق قيم مضافة اقتصادية على المديين المتوسط والبعيد.
ومن مقتضيات تحقيق هذا الركن الرابع للاستدامة الشاملة، إتاحة إمكانية وصول المواطنين إلى المعلومات والتكوين والتدريب اللازمين والمستمرين، ليتمكنوا من الحسم عن علم ووعي ذاتي فيما يتعلق بقضايا الطاقة والمناخ.
إذا، هي أهداف جزئية عملية ثمانية: 1)- تعزيز نوعية عالية للحياة ؛ 2)- تحسين الرشادة الطاقية ؛ 3)- تحقيق دفعة للنمو الاقتصادي ؛ 4)- تأمين عال للتزويدات ؛ 5)- الحفاظ على الموارد الطبيعية ؛ 6)- تخفيض الانبعاثات الكربونية من CO2 ؛ 7)- ضمان استقرار الأعباء الضريبية ؛ 8)- تعزيز قدرات المواطنين على اتخاذ القرار.
ومما يلاحظ في عملية التخطيط الاستراتيجي الطاقي لعام 2050 التي اعتمدتها “جمعية الحوار الثلاثي لطاقة سويسرا”، استهداف كل مرحلة بقيم أو مؤشرات إحصائية محددة تُقيم على أساسها مدى نجاعة التنفيذ(مراحل: 2020، 2035، 2050) ؛ والتي وضعت من أجلها سبع استراتيجيات فرعية متكاملة هي: 1)- تحسين تنظيم السوق ؛ 2)- تحسين معتبر للرشادة الطاقية ؛ 3)- تنمية كبيرة للطاقات المتجددة ؛ 4)- تخفيض استخدام الموارد الأحفورية وغير المتجددة ؛ 5)- تقوية وتسريع ديناميكية الإبتكار ؛ 6)- تقوية التزام سويسرا في مجال السياسة الطاقية والمناخية الدولية ؛ 7)- تحسين الإعلام والشفافية والتواصل مع المواطنين.
ومنه، فإن المطلوب حسب تلك الاستراتيجية في الأعوام القادمة، القيام بـ ():
المزواجة بشكل عاجل النمو الاقتصادي مع الاستهلاك الطاقي ؛
العمل على تجاوز كلي تقريبا للنظام الطاقي الراهن المسبب في انبعاثات الكربونية لـ CO2(التخلي عن الحالة الكاربونية) ؛
مواصلة ضمان تزود مأمون بالطاقة ؛ وتقوية تنافسية الاقتصاد السويسري.
ففي الأعوام القادمة، هناك أربع شروط أساسية يمكن أن تتطور وتؤطر وتؤثر بقوة على عملية صوغ وتنفيذ السياسة الطاقية لسويسرا():
1)- التزام الجماعة الدولية -ومنها طبعا سويسرا كقاطرة ورمزية ديبلوماسية للحوكمة الكوكبية- بتخفيض نسب الانبعاثات الكربونية CO2 ؛ من أجل التقليل من الآثار المتعلقة بحالة الاختلال المناخي المؤكدة ؛
2)- توقع تراجع العرض التجاري من الموارد الطاقوية من المصادر الأحفورية، ومنه، توقع ارتفاع أسعارها جميعا بنسب متفاوتة على المدى الطويل خلال الفترة من 2040 إلى 2060 على الأقصى ؛
3)- توجه دول الاتحاد الأوروبي نحو تنسيق وتكامل وثيق للسوق الأوروبية للطاقة ؛
4)- الاستعداد منذ 2017 إلى أفق 2020، للتعامل القطائعي الإرادي مع حالة الشيخوخة الحتمية للمراكز النووية السويسرية؛ فضلا ضرورة التعاطي مع وصول التعاقدات الطويلة المدى، الخاصة باستيراد الكهرباء من فرنسا إلى نهاية آجالها.
وبعد أن قامت “جمعية الحوار الثلاثي لطاقة سويسرا” بتشريح الوضعية الراهنة، وتحديد الأهداف الكبرى، ووضع السيناريوهات، حرصت على أن يكون تحقيق أهداف استراتيجية الطاقة 2050 على مرحلتين كبريين: المرحلة الأولى: هي مرحلة تطبيق مجموعة من التدابير التشجيعية والتحفيزية الإدراية الحكومية والشركاتية والمجتمعية، والتي امتدت تدريجيا من عام 2010 إلى 2013، 2017 ؛ ثم يتوقع أن تتواصل إلى عام 2020. حيث أن الهدف الرئيس لهذه المرحلة هو ضمان التزود بالطاقة وبالطاقة الكهربائية تحديدا، من دون بناء أي محطة نووية جديدة أو استبدال واحدة قائمة بأخرى منتهية الصلاحية، مع عدم تمديد الاستيراد الكهربائي من فرنسا ؛ وذلك من خلال تعزيز الإمكانات والقدرات التقنية والاقتصادية والإيكولوجية والاجتماعية، للتوجه نحو تبني مصادر الطاقات الجديدة والمتجددة ؛ ومنه، الإقناع العام بجدوى التعديل الجذري المتدرج للنسق الطاقي الوطني، خاصة في ظل وجود تخوفات وتحفظات بل معارضات لمثل ذلك التعديل التاريخي، الصعب والمكلف نسبيا.
والمرحلة الثانية وهي مرحلة الاستغناء الكلي عن الطاقة النووية وتعظيم الإستثمار والإفادة من مصادر الطاقات الجديدة والمتجددة ابتداء من أعوام 2035 إلى 2050. فمن الآثار المتوقعة للحزمة التدابير تنمية عرض الكهرباء، تتوقع الخطة عدة سيناريوهات كآثار لحزمة التدابير السياسية: ومنها أن يُنتهى نهائيا وتدريجيا من استخدام الطاقة الكهربائية المستهلكة من المحطات النووية في سنوات 2033 -3035 ؛ بينما تتوقع تصاعدا تدريجيا لحصة الطاقة الكهربائية المستهلكة من الطاقات البديلة لتصل ذروتها سنوات 2040-2050 ؛ على حين تتوقع تواصل وثيرة القدر المستهلك من الطاقة المائية بوترة أكبر، من بين مجمل أنواع الطاقات الأخرى خلال الأربعين سنة من 2010-2050.() ؛
إذا، هي أربع أهداف استراتيجية كبرى، تتضمن ثمانية أهداف جزئية فرعية، وتتجسد عبر ثماني استراتيجيات جزئية، وهذه تتجسد من خلال عشر تدابير عملية حاسمة، حددها واضعو “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، للفترة من 2011 إلى 2020 ؛ وأخذت بها الحكومة الكونفدرالية، كما سنبين ذلك لاحقا. إن معايير الرشادة والملموسية تبرز في تلك التدابير العملية، لضمان تقييم مدى تجسيد الأهداف الاستراتيجية الكلية والجزئية المسطرة.
فتبني سياسة طاقية فعالة يتطلب توفير وإدارة توليفة من التدابير العملية مثل تنفيذ مجموعة من التدابير التقنية، تتضمن مثلا: (تحديد رزنامة لنهاية صلاحية أجهزة استهلاكية معينة، تحديد آجال لتخفيض استهلاك الطاقة…) ؛ ومثل تنفيذ مجموعة من التدابير المالية، تتضمن مثلا: (فرض ضرائب على الطاقة، إقرار دعم انتقالي مالي لفئات معينة ولأنشطة اقتصادية…) ؛ ومثل تنفيذ تدابير إقناعية، تتضمن مثلا: (الإعلام والكاوتشينغ والترويج الإشهاري لعلامات مميزة،…) ؛ ومثل تنفيذ تدابير مهيكِلة، تتضمن مثلا: (عقد اتفاقيات طوعية، تشجيعات لإنشاء شبكات…). كل ذلك لرفع منسوب القبول المواطني والديمومة وتحديد الفئات المستهدفة وتأمين الاستثمارات، مع تطبيق بعد التدابير لفترات محدودة.
ومن دون الخوض في تفاصيل تقنية نعدد التدابير العملية العشرة التي توصل إليها المشاركون في ورشات الاستشراف الاستراتيجي لـ”جمعية الحوار الثلاثي لطاقة سويسرا”، وهي:1)- إقرار سعر موحد للطن الواحد من الكاربون(CO2)، بفضل تجارة الشهادات وفرض الرسوم الكربونية ؛ 2)- اعتماد قيم طاقية مستهدفة للبناءات الجديدة والمجددة ؛ 3)- اعتماد برنامج تشجيعي لتجديد العمارات ؛ 4)- اعتماد السقوف المعتمدة لدى الاتحاد الأوروبي للتحكم في انبعاثات الكربونية في مجال المواصلات ؛ 5)- تشجيع متعاملي المواصلات على تحقيق الرشادة الطاقية ؛ 6)- تحسين تحقيق مستويات عالية من الرشادة في استهلاك الطاقة الكهربائية ؛ 7)- تطوير وإعادة توزيع المزودات بالطاقات المتجددة ؛ 8)- تشجيع البحث التطبيقي والأساسي ورأس المال المخاطري ؛ 9)- تحسين الإعلام والتربية والتكوين المستمر والحوار ؛ 10)- تبني سياسة خارجية طاقية ومناخية طموحة وفعلية.
وفي النهاية، توقعت ورشات الاستشراف الطاقي السويسرية لبناء استراتيجية الطاقة لعام 2050 مجموعة من النتائج والآثار المتعلقة بالتكاليف والاستثمارات، خاصة وأن الحساسية القصوى لمثل هذه الاستراتيجية هي في العمل أن لا تتسبب في حدوث تداعيات سلبية كزيادة الأعباء الضريبية الصافية على كاهل المتعاملين الاقتصاديين والمواطنين ولا زيادة مديونية الدولة.
وينافح القائمون على هذه الهيئة السويسرية الخبيرة المحاورة على أن الأهداف المحددة للسياسة الطاقية والمناخية من هنا إلى 2020 قابلة للتحقيق كليا، وأنها ستعطي لسويسرا دفعات تنافسية إيجابية، بشرط أن تطبق التدابير العملية بطريقة سريعة وصارمة ومحفزةماليا وإداريا. ومنه، يجدر النظر في كيفية تنزيل تلك الاستراتيجية في الواقع الحكومي والاجتماعي السويسري في مرحلتها التنفيذية الأولى.
رابعا: الحوكمة الطاقية السويسري: من الصياغة الاستشرافية إلى الاستفتاء الشعبي
تتميز هذه المرحلة التالية لمرحلة التفكير الاستشرافي والتخطيط الاستراتيجية لسيرورة الانتقال الطاقي في سويسرا، بالتركيز على الجوانب العملية القانونية والسياسية والتقنية والمالية والإعلامية والاجتماعية لتنفيذ الحكومي استراتيجية الطاقة لعام 2050.
والمتابع للتجربة السويسرية، يتأكد أن المعركة الانتقال الطاقي لم تكن سهلة بالمرة وعلى كل المراحل والمستويات، فقد مست عدة أبعاد أهمها: البعد السياسي الحكومي، البعد السياسي التشريعي البرلماني، البعد الإعلامي. كل ذلك لإقناع المجتمع السويسري -عبر إعمال آليات الديمقراطية شبه المباشرة- بجدوى الاستراتيجية. فبناء سياسة طاقية مفهومة ومعقولة ومربحة، يتساوق تماما مع ضرورة تبني مجموعة من التدابير العملية المفهومة والمقبولة وغير المكلفة أيضا، كما تم عرضه أعلاه.
لقد استهدف المجلس الكونفدرالي من “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، اقتصاد 35% من الاستهلاك السويسري للطاقة، وأن توقف المحطات النووية إنتاج الطاقة تدريجيا، إلى أن تتوقف نهائيا في أفق 2050:
1)- تخفيض استهلاك الطاقة بالنسبة لعدد السكان، بنسبة 35% ؛
2)- تثبيت نسبة استهلاك الكهرباء بعد عام 2020 ؛
3)- تطوير ملموس لحصة الطاقة المنتجة من المياه بنسبة (10%)، وتلك المنتجة من المصادر الطاقية المتجددة بنسبة (1000%).
وكما أوضحنا من خلال ورشات “الحوار الثلاثي لطاقة سيوسرا” التي انطلقت منذ 2008، كان صائغو معالم “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، قد وضعوا سيناريوهين أو خيارين لا ثالث لهما أمام السلطات العمومية: 1)- سيناريو “مواصلة السياسة الراهنة” ؛ 2)- سيناريو “السياسة الطاقية الجديدة”.
هكذا، بعد بذل الوسع العلمي واستشراف الآفاق الطاقية لعام 2050 وبعد إنضاج القرار السياسي وإطلاق الحوارات متعددة الأطراف الاجتماعية خلال 2008-2017() ؛ بدأت المرحلة الأولى للعمل السياسي المواطني المباشر لتمرير استراتيجية الانتقال الطاقي منذ 25 أكتوبر 2011، حيث اغتنمت السلطات الكونفدرالية فرصة-صدمة كارثة فوكوشيما/Fukushima، الحاصلة في 11 مارس 2011، فبادر المجلس الكونفدرالي في الـ 20 سبتمبر 2012، بتكليف وزارة الكونفدرالية للبيئة والمواصلات والطاقة والاتصال(DETEC) بمراجعة الاستراتيجية الحالية للطاقة وتحيين آفاقها إلى عام 2035، والتي طُوّرت تراكميا منذ 1970. وفي 25 ماي 2011، اتخذت الحكومة والبرلمان “مبادرة الخروج من النووي” ؛ وكلفت وزارة البيئة بإعداد مشروع قانون واستراتيجية في هذا المجال. وفي 28 سبتمبر 2012، فتحت الحكومة المجال لإجراء استشارة حول التدابير العملية، لتمس بالإصلاح الطاقي قطاعات البناء والمواصلات والصناعة وذلك من أجل رفع الكفاءة والرشادة الطاقيين، وتطوير الطاقات الجديدة والمتجددة. وفي 16 نوفمبر 2012 أودع حزب الخضر عريضة مواطنية قانونية سميت “المبادرة الشعبية من أجل الخروج المبرمج من النووي”، حيث حصلت على 107.533 توقيعا مواطنيا ؛ وقد نصت العريضة على إلزام السلطات العمومية الكونفدرالية بمنع بناء محطات نووية جديد وبتحديد آجال إيقاف المحطات النووية الخمسة الشغّالة منذ حوالي أربعين عاما، عن الخدمة، واللجوء إلى ترشيد استهلاك الطاقة ودعم استخدام الطاقات المجديدة والمتجددة. وفي دورة الربيع 2013، أقر البرلمان مشروع خطة العمل للبحث الطاقي المنسق، معطيا دعما للأنشطة البحثية القائمة للفترة ما بين 2013-2016. وفي دورة الخريف 2013، أقر البرلمان-تحت إشراف اللجنة البرلمانية للبيئة وتهيئة الإقليم والطاقة (CEATE-N)- أولى التدابير العملية التشجيعية الكفيلة بتنفيذ “استراتيجية الطاقة لعام 2050″؛ بعدها تم إبلاغ المواطنين بأولى تلك التدابير. وأخيرا، انتهت في الجمعية الكونفدرالية السويسرية(البرلمان)، في الـ 30 سبتمبر 2016، المصادقة على قانون “استراتيجية الطاقة لعام 2050”.
ولكن خلال 2014-2016 لوحظ بطء في تجسيد تلك التدابير بالنظر لعوامل عديدة منها: تعارض عدة مصالح ؛ نقص الشفافية في عدة إجراءات قانونية وتنظيمية وإدارية وتقنية ؛ تردد عدة فئات اجتماعية ونقص فهم المواطنين لتدابير الانتقال الطاقي(). وكان للأحزاب ومنظمات مجتمع المدني والجامعات -كما سنرى لاحقا- دور هام في معركة الإقناع والإقناع المضاد.
ولذلك وجدنا أنه في 27 نوفمبر 2016 رفض الشعب والكانتونات “مبادرة الخروج من النووي” ؛ ثم رفض -بعد استفتاء شعبي نظم في 31 جانفي 2016- أولى التدابير المتعلقة بتلك الاستراتيجية().
ومع ذلك، ومن جديد، كررت الحكومة خلال الفترة من فيفري إلى ماي 2017، حملتها من أجل الإقرار النهائي لـ”استراتيجية الطاقة لعام 2050″، لكن مع إدخال مجموعة من التعديلات على الحزمة الأولى من التدابير العملية.()
ومنه، بدأ التنفيذ الفعلي للمرحلة الأولى للاستراتيجية الطاقية السويسرية. وبالموازاة مع كل تلك الأنشطة، أطلقت الحكومة السويسرية مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي من أجل التوصل إلى اتفاقية حول الكهرباء.
وفي 21 ماي2017 نظم استفتاء شعبي وطني ناجح نسبيا وافقت أغلبية ديمقراطية من المواطنين السويسريين على نصها ؛ حيث نال القانون() من الأصوات المؤيدة بـ”نعم” نسبة 58.21% من بين الأصوات المعبر عنها ؛ بينما صوت بـ”لا” على القانون نسبة 41.79% ؛ ولكن بنسبة مشاركة وطنية قريبة من المتوسط، بلغت42.33 % من إجمالي أصوات الناخبين.
ومما لوحظ مثلا على نتائج الاستفتاء أن أربعة كانتونات شمالية() تقع فيها المحطات النووية هي الأقل تأييدا للقانون، وذلك فسر بمخاوف سكانها من الآثار الاقتصادية السلبية لتلك الاستراتيجية. بينما صوت مواطنو بعض البلديات-على خلاف موقف كانتوناتها- بـ “لا” على القانون-الاستراتيجية الطاقية لعام 2050، لأنهم لم يكونوا مؤيدين لإنشاء المراوح الكبرى المولدة للطاقة الكهربائية الرياحية، لأنها تحدث حسب حجتهم تلوثا صوتيا ومغناطيسيا، فضلا عن تسببها في قتل مئات الطيور المهاجرة ؛ يتعلق الأمر هنا، بتسع بلديات رافضة من 14 بلدية تضم محطات طاقية رياحية كبرى.
وبعد نجاح الحكومة الكنفدرالية برئاسة دوريس ليوطار/Doris Leuthard في تمرير “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، التي دخلت قانونيا حيز التنفيذ يوم 1 جانفي/ يناير 2018، فإنها اليوم بصدد تنفيذ إجراءات المرحلة الثانية من الاستراتيجية وهي مرحلة الانتقال من النظام التشجيعي إلى النظام التحفيزي للتقدم في سيرورة الانتقال الطاقي أشواطا أخرى، وهي تمتد من 2017 إلى 2020.
ويقع القانون في 77 مادة وأربعة عشر بابا، مع ملحق للمواد المحذوفة والمعدلة برلمانيا. تناول الباب الأول الهدف من القانون والقيم والمبادئ التوجيهية . ومما جاء فيه، وتحديدا في المادة 01: “أن غاية القانون المساهمة في تزود طاقي كاف، متنوع، مؤكد، اقتصادي ومحترم للبيئة. وأنه قانون يهدف إلى:
أ)- ضمان عرض وتوزيع طاقي اقتصادي ومحترم للبيئة ؛
ب)- ضمان استخدام اقتصادي وفعال للطاقة ؛
ج)- السماح بالانتقال إلى نمط تزودي بالطاقة، يقوم على أساس اللجوء المتزايد إلى الطاقات المتجددة، وتحديدا إلى الطاقات المتجددة الداخلية.
أما المادة02، فنصت على: القيم المرجعية، لتنمية الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، باعتبارها مؤشرات إحصائية مستهدفة إنتاجيا. وقد نصت على “السعي للوصول إلى إنتاج داخلي متوسط من الكهرباء المنتجة من الطاقات المتجددة من دون المصدر المائي، يحقق حوالي 4400 جيغاواط/ساعي، في أفق 2020، وعلى الأقل 11.400 جيغاواط/ساعي، في حدود 2035. مع نصها على السعي للوصول إلى إنتاج داخي متوسط من الطاقة الكهربائية من المصادر المائية تصل إلى 37.400 جيغاواط/ ساعي، في حدود 2035.”
أما المادة 03: تناولت القيم المرجعية للإستهلاك، كمؤشرات إحصائية مستهدفة استهلاكيا: “فيما يتعلق بمعدل الاستهلاك الطاقي لكل شخص ولكل عام، من الأنسب أن يستهدف بالمقارنة مع عام 2000، تحقيق تخفيض بنسبة 16% ؛ ابتداء من عام 2017 إلى 2020، ثم نسبة 43% في أفق عام 2035.
وفيما يتعلق بمعدل الاستهلاك الكهربائي لكل شخص ولكل عام، من الأنسب أن يستهدف بالمقارنة مع عام 2000، تحقيق تخفيض بنسبة 3% ؛ إلى أفق عام 2020، ثم نسبة 13%، إلى أفق عام 2035.
ونصت على أن على الحكومة والكانتونات، أن تنسقا سياساتهما وأن يأخذا في الحسبان الجهود المبذولة من طرف الشركات والبلديات والأسر ؛ مع متابعة وتشجيع التدابير الإرادية الذاتية المتبناة من طرف المتعاملين في المجال الاقتصادي وتحقيق الاتفاقات القائمة ومراعاة العلاقة الجيدة بين التكلفة- الفعالية.
ولدعم تطبيق إجراءات “استراتيجية الصاقة لعام 2050، ميدانيا أنشأت الحكومة برنامجا أطلقت عليه اسم “طاقة سويسرا”/SuisseEnergie”()، وهو في نفس الوقت: أرضية إعلامية واستشارية في مجال الطاقة، تضع في حالة ترابط الاختصاصيين والمكونين ومستعملي المعارف ؛ ورافعة يرجى أن تسهم في وضع المشاريع الجيدة في السوق ؛ وأرضية للتكوين وتحسين الأداء في مجال الطاقة ؛ كما يتوقع منها أن تدعم الآثار الإيجابية الأولى للحزمة الأولى من الإجراءات السياسية ؛ وتقوي الأنشطة والمصادر المالية لترتفعها من 26 إلى 55 مليون فرنك في السنة الواحدة.
وكما كان للمجتمع المدني السويسري دوره في المساهمة في بلورة “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، من خلال الجهد الاستشرافي المذكور أعلاه، فقد كان له أيضا نصيبه من مرافقة عمل الحكومة في مجال الإقناع بجدواه وتحويله من مشروع نخبوي إلى مشروع مجتمع. كما كان له نصيب من النقد البدائلي البناء عبر إعمال جدلية الخبرة والخبرة المضادة، الرأي والرأي الآخر، الموالاة والمعارضة السياسيين، خدمة للصالح العام الوطني السويسري ؛ حيث قدمت هيئات حزبية ونقابية وبحثية ومنظمات مدنية أخرى بمساهماتها النقدية البديلة لتلك الاستراتيجية، ومنها مثلا صدور دراسة بعنوان: “الاستراتيجية الطاقية لعام 2050: التنافسية في خطر”()، الصادرة في يناير 2013.
حيث ظهر مشروع “استراتيجية الطاقة لعام 2050″، في ناظر المعارضين له مشروعا مضادا لأنماط حياة وقيم السويسريين الراهنة ؛ مضادا للحرية ؛ مضادا للمجتمع الاستهلاكي ؛ مضادا للتنمية الاقتصادية ؛ مضادا للسرعة والآنية ؛ مضادا للفردانية ؛ مضادا لنوعية إطار الحياة ؛ مضادا للأمان والاستقرار. بينما يراه المؤيدون، بأنه على خلاف ذلك تماما، فهو يحرر البلاد من تبعية مرضية لطاقة غير صحية وغير بيئية وغير اقتصادية.
وهنا، يمكن الإشارة إلى قيامشركة روموند للطاقة(RomandeEnergie)، وجامعة لوزان، منذ 2014، بإنشاء أرضية بحثية-عملية، عابرة للتخصصات ومواطنية تشاركية، باسم “أرضية فولت فاس/Plate forme Voltface”، بمساعدة برنامج باسم “100 مليون من أجل الطاقات المتجددة والرشادة الطاقية”، الذي بادرت به ولاية فود(L’état de Vaud). وقدقامت “أرضية فولت فاس/Plate forme Voltface”، بتنمية مشاريع عملية دامت أربع سنوات(2014-2017)، حول الجوانب الاجتماعية للانتقال الطاقي، مع برمجة مجموعة عن الأنشطة العامة ؛ ساعية للإجابة العملية على سؤال مركزي مفاده: “كيف يمكن للمجتمع أن يتبنى الانتقال الطاقي؟”. وكان الجواب أنه “لا يمكن أن يحدث الانتقال الطاقي من دون إشراك الجميع: مواطنين، سياسيين، ومهنيي الطاقة.”كيف ذلك؟”، بالتكوين والتوعية حول مختلف التدابير المتخذة ضمن “استراتيجية الطاقة لعام 2050”.
ومما قام به مشروع “أرضية فولط فاص”،إصداره كراساته بهذا الاسم منذ أكتوبر 2016 ؛ والذي جمع محرروه في العدد الأول مجموعة من الأسئلة الكبرى التي على مشاريع البحث أن تجيب عليها ؛ على أن يعقبه كراس ثان يتناول الرؤى المستقبلية لعلاقة السويسريين بالطاقة في أفق عام 2049.
وخلص خبراء المشروع، إلى أنه بغض النظر عن التحديات التقنية للانتقال الطاقي، فإن، الأمر الأولوي لبناء المستقبل الطاقي لسويسرا، يتعلق بإعادة التفكير في نمط عيش السويسريين كافة، الذين عليهم أن يأخذوا في الاعتبار محدودية الموارد الطبيعية، وحدّة التبعية الاقتصادية والاجتماعية للمصادر الطاقية الأحفورية والنووية المؤثر سلبا على التوازنات البيئية والمناخية والصحية العامة. وأن يعوا أن الانتقال الطاقي يتعلق بتغيير نمط السكن، نمط الحركية الجغرافية، نمط الترفيه، نمط الاستهلاك ؛ باختصار الأمر يتعلق بموضوع شامل يتعلق بتغيير مجتمعي شامل تدريجي مدروس ومفكر فيه لنمط حياة بديل.
هذه وغيرها، نماذج من تجربة “حوكمة طاقية” ساهمت فيها الجامعات، والحكومة والبرلمان والأحزاب والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والشركات والبنوك وشركات التأمين ووسائل الإعلام الوطنية. هي “تجربة حوار” في البداية، و”تجربة حوار” في الإبّان، ويتوقع أن تكون “تجربة حوار” لاينتهي حول المستقبل الطاقي في بدايات عصر الانتقال الطاقي الحضاري الكوكبي، وهي لذلك تجربة جديرة بالمحاكاة والتأسي في أكثر من بلد في العالم، ومنها الدول العربية.
خامسا: بعض الدروس المستفادة عربيا من ورشات استشراف الانتقال الطاقي في سويسرا
بداية، قد يعترض معترض أن “شتان بين الثرى والثريا”، أي “شتان بين بلد مصنع متقدم متحضر،كسويسرا، وبلدان عربية نامية، يعيش معظمها هيكليا حالة أشبه بالقرون الوسطى الأوروبية على الأقل من الزاوية الثقافية والسياسية والصناعية” ؛ علما بأن المشهد العربي الراهن -رغم مأساويته وملهاته المفارقية، التي تسببت فيها الثورات المضادة للتغيير الديمقراطي- إلا أنه يتوفر على تجارب رائدة في مجال بناء استراتيجيات للانتقال الطاقي، كالتجارب الواعدة المغربية والجزائرية والقطرية والإماراتية، التي من الضروري تثمينها وتطويرها، لتصل مرحلة الانتقال المؤكد الدائم.
إن التجارب الاستشرافية عبر العالم الأول أو الثاني، تظل تغري على اجتراح المغامرة بغية اختصار الطريق وتحقيق القفزات وتجاوز العقبات. فالبلدان العربية الواقعة جغرافيا في منتصف القارات الثلاثة الكبرى، تجد نفسها أمام جملة من التحديات التنموية ذات الطبيعة الوطنية والعابرة للأوطان، من ضمنها إشكالية التبعية الهيكلية المزمنة للطاقات الأحفورية سواء كبلدان عربية منتجة مصدرة لها أم كبلدان عربية مستهلكة مستوردة لها، ومن ضمنها تأثرها من آثار الاختلالات المناخية الكوكبية من خلال تعرضها لظاهرة الهجرة غير الشرعية ذات المصادر العديدة كالنزاعات الجيوسياسية وتلك المتعلقة بالتقلبات المناخية الحاصلة في المحيط الإقليمي العربي الإفريقي خاصة ؛ ومن ضمنها تحديات ضعف الحوكمة الشاملة، وارتفاع معدلات اللامن السياسي والقانوني ومؤشرات الفساد واللاتفاوتات الاقتصادية -الاجتماعية والمناطقية في معظم البلدان العربية…الخ.
إن استقراء التجربة الاستشرافية الطاقية السويسرية يمنح السياسي والخبير والمواطن العربي الوطني اللبيب جملة من الدروس العديدة -التي سيمكّن الأخذ بها نخبويا ومواطنيا شعبيا- من الانخراط في تجربة الانتقال الطاقي بثقة واقتدار. ومن تلك الخلاصات الجديرة بالمحاكاة نذكر مايلي:
1)- إن أهمية إطلاق ورشات الاستشراف في المستويات الحكومية وغير الحكومية لتمكين الجميع من تقاسم رؤية مشتركة للمستقبل البعيد، رؤية متحررة بشكل كبير من كوابح الآجال القريبة والمصالح الأنانية والفئوية والمناطقية. إن لورشات الاستشراف المتعددة التخصصات والفاعلين الاجتماعيين فائدة السحر في إطلاق وتحرير إرادة الطاقات المجتمعية الرسمية والمواطنية، في اتجاه تملّك الوعي بالمستقبل المشترك (مخاطرا وفرصا) وتقاسم الخبرة الاستشرافية(مفاهيما ومنهجيات ومعطيات ورؤى ثاقبة). فعندما أطلق السويسريون حوارات وورشات التفكير المستقبلي في بناء جماعي لـ”استراتيجية الطاقة لعام 2050″، أطلقوا معها سيرورة تاريخية للتفكير خارج العلبة وبعيدا عن الأفكار المسبقة والمكتسبة وتجاوز الحوارات العقيمة ؛ كما أطلقوا معهم ورشة طويلة المدى للتجديد الحضاري للوطن.
2)- تعزيز قدرات منظمات المجتمعات المدنية العربية، وإطلاق مبادراتها لإنشاء خزانات التفكير وتدربها على استخدام تقنيات الاستشراف الاستراتيجي لأنشطتها، وإشراكها في ورشات الاستشراف القطاعية ومنها الطاقية، لتكون رافعات استراتيجية في طريق تجسيد أهداف وإجراءات استراتيجية الانتقال الطاقي العربية ؛
3)- أهمية الحوار والحوار المضاد، الخبرة والخبرة المضادة، السلطة الحاكمة والمعارضة الحكيمة، في حفز وصقل سيرورات التغيير والإصلاح المتدرج للمنظومات المجتمعية ومنها المنظومة الطاقية القائمة. فالانتقال الطاقي مسألة مركبة وشاملة ففيها تتقاطع -وقد تتنافر- الأبعاد التقنية والسياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية. ولذلك فإن التعامل مع الانتقال الطاقي بمنطق الإقصاء والأحادية والاختزالية والسلبية واللامبالاة والمعرفة المجزأة المحدودة والنزعة الحمائية الشوفينية والإدارة المركزية المفرطة ؛ كفيل بأن يجهض المسعى ويحدث التخبط الاجتماعي-السياسي ربما الأمني ؛
4)- أهمية القرار السياسي الاستراتيجي في تحريك سيرورة التعديل والإصلاح للمنظومة الطاقية القائمة، التي ثبت بأكثر من مؤشر ودليل أنها محدودة الأفق، بل هي في عمق أزمتها الهيكلية. فالمنطقة العربية -في ظل انتقال تاريخي في هيكلية النسق الدولي، من سماته إقامة عالم معولم متعدد الأقطاب- تشهد بسبب شدة الاختراقات والاستقطابات الجيوسياسية والجيواستراتيجية والجيواقتصادية والجيوثقافية، تراجعا مقلقا في قيمتها الحضارية، كسليلة حضارة وسط وأمة وسط وصاحبة موقع وسط. ولا سبيل أمام صناع القرار السياسي إلا أن تعي ضرورات وفرص هذه المرحلة التاريخية، فتقوم بإعادة النظر جذريا في أساليب الحكم والحوكمة الوطنية والإقليمية العربية الشاملة ومنها بناء أسس الحوكمة الطاقية، التي تتطلب -من بين ما تتطلبه – إنجاح الانتقال الديمقراطي السياسي والرفع من قدرات منظمات المجتمع المدني لتنتقل من مجتمعات تحكمها القيم والسلوكيات العسكرتارية والأبوية والريعية والتسلطية إلى مجتمعات تحتكم نخبها -قبل مواطنيها العاديين البسطاء- إلى منطق العقلانية والرشادة والحوار الديمقراطي لبناء الأوطان ؛
5)- أهمية ضبط استراتيجية متقاسمة لإحداث النقلة الثقافية-المجتمعية عبر آليات التربية الشعبية والتكوين المتواصل والتواصل الإعلامي التفاعلي مع وبين جميع الفاعلين: فالتغيير يبدأ في العقول. فكما بدأ النموذج الطاقي الأحفوري في العقول الحداثية، فإن النموذج الحضاري ما بعد الأحفوري لا يمكن أن يبنى إلا بالعقول وفي العقول العبرحداثية. فلا أحد يعلم حاليا وبشكل مفصل وشامل ودقيق ونهائي ما الطريقة الأجدر لذلك الانتقال، ولا ما هي التكتيكات الأكفأ ولا ما التكنولوجيات الأرشد ولا ما الطرق التنظيمية القانونية والإدارية الأدوم، لإنجاح هذا الرهان-السيرورة. لكن المؤكد، أن البلدان العربية في أفق 2050، لابد لها أن تحسن من نمط عيش الأجيال الحاضرة والمستقبلية عبر صوغ استراتيجيات تنموية تنافسية مستدامة متناسقة تقنيا واقتصاديا وسياسيا ومجتمعيا، في مجال إطلاق سيرورة انتقال طاقي تشاركية، ناجحة وأقل تكلفة.
خاتمة:
أخيرا، نتصور أن هذه الورقة البحثية قد أبرزت المعالم الكبرى لـ”استراتيجية الطاقة لعام 2050″ بدولة سويسرا. وأبرزت كيف تظافرت جهود الحوار الثلاثي بين أهل المعرفة والخبرة وأهل الاقتصاد وأهل الاجتماع – السياسي في صوغ عدة استراتيجيات متكاملة، للآمادالقصيرة والمتوسطة والطويلة للانتقال الطاقي، ضمن “برنامج سويسرا للطاقة (SuisseEnergie)” ؛ غايتها القصوى الخروج من عصر الحضارة رقم صفر، العصر الأحفوري-النووي المهدد للنوع البشري على كوكبنا الوطن ؛ وولوج عصر الحضارة رقم واحد، عصر طاقات المتجددة ؛ كل ذلك في إطار الحرص على إبقاء الصورة النموذجية للكونفدرالية السويسرية.
وفي سبيلنا البحثي التحقق من مدى صحة فرضيتنا، تأكد أن نموذج الحوكمة الطاقية السويسرية، ممارسة قائمة بذاتها، سواء أثناء عملية الاستشراف وأثناء تنزيل استراتيجية الانتقال الطاقي الطموحة لعام 2050 إلى أرض واقع الناس ؛ وتأكد لنا أيضا أنه بالرغم من وجود فوراق في مستوى وأولويات التطور الصناعي والحضاري في الحالتين السويسرية والعربية، إلا التجربة السويسرية قابلة للمحاكاة عربيا.
أخيرا، نخلص إلى أن الحوار العقلاني الوطني الصبور من أجل الانتقال الطاقي هو الطريق الأمثل، للذهاب بعيدا فيه. فأصعب الأشياء مباديها، وتغيير السلوكيات والأفكار المسبقة أصعب من كسر ذرة يقول عالم الفيزياء ألبيرت أنشتاين.
المراجع بالعربية:
ميتشيو كاكو، تر: سعد الدين خرفان، رؤى مستقبلية، كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، من سلسلة عالم المعرفة الكويتية، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت، عدد صادر عام 1422هـ/ 2001م.
قاسم حجاج، “أثر الحجم على الأداء المتميز في ظل العولمة(دراسة حالة الدول الصغيرة)”، دراسة علمية منشورة في مجلة السياسة الدولية، العدد 166، أكتوبر 2006، انظر في موقع المجلة عى الويب.
جمهورية الصين الشعبية، “مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخى يصدر اتفاقية كوبنهاجن”، 19 ديسمبر 2009، على الويب: http://arabic.people.com.cn/31663/6847369.html
المراجع الأجنبية:
Jacques De Courson, «Politique et Prospective, Ou ce que les hommes politiques m’ont appris sur la prospective», in: Futuribles, n°361, Mars 2010, pp57-65, p57-58.
Olivier Meile, Responsable du domaine Bâtiment, Office fédéral de l’énergie, «Stratégie énergétique 2050: Un bref portrait », Se in:
http://ge.ch/energie/media/energie/files/fichiers/documents/es2050_presentation_meile_fr.pdf
Energie Trialog Schweiz, ETS, «Stratégie énergétique 2050, Impulsions pour la politique
énergétique Suisse », (Résumé), 2009, in: ETS web site: www.energietrialog.ch
Economiesuisse, Dossier politique, « Etude sur la stratégie énergétique 2050: la compétitivité en danger »,30 janvier 2013 N° 3, Ibidem.
Egger/Nigai, « Energy Reform in Switerland: A Quantification of Carbon Taxationand Nuclear Energy Substitution Effects », 2013, See in: www.economiesuisse.ch
Office Fédéral de L’Énergi, Division Médias et Politique, «La stratégie énergétique 2050 après l’entrée en vigueur de la nouvelle loi sur l’énergie », 29 Mai 2017, See in:
http://www.bfe.admin.ch/energiestrategie2050/index.html?lang=fr&dossier_id=07008
Office Fédéral de L’Énergi, Division Médias et Politique, «Chronologie relatifs à la stratégie 2050, Les étapes décisives au niveau politique concernant la stratégie énergétique 2050», See in:https://www.uvek.admin.ch/uvek/fr/home/energie/strategie-energetique-2050/chronologie-et-graphiques.html.
Confédération Suisse, L’Assemblée fédérale de la Confédération suisse, « Loi sur L’énergie (LEne)», du 30 Septembre 2016, pp7469-7518, See in : www.droitfederal.admin.ch
www.strategieenergetique2050.ch
Michel Godet et les autres, in: émission sur Radio France Culture, «L’Economie en Question », Decembre 2007, in: www.franceculture.fr
Volteface, «Etats des lieux des questions sur la transition énergétique, La transition énergétique: Un Projet de Société», Chahier n°1, éd. Université Lausanne, Octobre 2016, p6.
See in: www.voltface.ch
«Transition énergétique : définition, enjeux et défis de la transition énergétique en France et dans le monde», See in: https://e-rse.net/definitions/transition-energetique-definition-enjeux/#gs.yIuDz3Y
Cécile Désaunay, « Introducion du dossier sur la transition électrique », in Futuribles, N° du 8 septembre 2017,
Colombier Michel, «Transition du secteur électrique et décarbonation de l’économie française », 7 Sep 2017, see in: https://www.futuribles.com/fr/tribune-transition-electrique/introduction-tribune-transition-electrique/