الاقتصاد الجهوي والحوكمة المحلية في الجزائر: نحو تنمية احتوائية ومتوازنة

تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة تحولًا جوهريًا في رؤيتها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، يرتكز على إعادة الاعتبار للتنمية المحلية والاقتصاد الجهوي كمدخل لتحقيق العدالة المجالية والفعالية الاقتصادية.

فقد أصبحت الجهوية الاقتصادية والحوكمة المحلية من ركائز المقاربة الجديدة التي دعا إليها رئيس الجمهورية، والتي تهدف إلى تمكين الجماعات المحلية من أدوات التخطيط والتنفيذ، واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية الخاصة بكل جهة، بما يحقق تنمية احتوائية ومتوازنة عبر مختلف أقاليم الوطن.

أولًا: من مركزية التخطيط إلى مقاربة الاقتصاد الجهوي

لقد تبنت الجزائر منذ سبعينيات القرن الماضي فكرة التوازن الجهوي للتنمية من خلال المخططات التنموية الوطنية التي حاولت توزيع الاستثمارات بين الجهات.

غير أنّ هذه التجربة لم تحقق النتائج المرجوة بسبب غياب الاستمرارية والتراجع عن فكرة التخطيط الجهوي واللامركزية، ما أدى إلى اختلالات في توزيع الأنشطة الاقتصادية والسكان بين الشمال والجنوب.

أما اليوم، فتعود الجزائر إلى إحياء هذه الفكرة بروح جديدة، قوامها الاقتصاد الجهوي الذي يقوم على دراسة خصوصيات كل إقليم، وتثمين موارده، وتوجيه الاستثمارات نحو المجالات ذات الميزة التنافسية، مع تمكين السلطات المحلية من اتخاذ القرار التنموي بناء على معطيات واقعية ومحدثة.

ثانيًا: الحوكمة المحلية كآلية لتفعيل التنمية المندمجة

تُعد الحوكمة المحلية الإطار المؤسسي الذي يضمن فعالية الاقتصاد الجهوي.

فمن خلال اللامركزية الفعلية، وتوسيع صلاحيات الجماعات المحلية، وتعزيز قدراتها في التخطيط والإدارة، يمكن تحقيق تنمية مستدامة وشاملة.

وتتجلى الحوكمة المحلية في إشراك الفاعلين المحليين (البلديات، المجتمع المدني، الجامعة، والمؤسسات الاقتصادية) في صياغة البرامج التنموية، وتعزيز الشفافية والرقمنة في تسيير الموارد المحلية، وربط القرار المحلي بالمعطيات الميدانية والبيانات الاقتصادية الدقيقة.

ثالثًا: إعداد الخارطة الاقتصادية الجهوية وتوظيف تقنيات الجيوماتيك

إنّ أحد مرتكزات الاقتصاد الجهوي هو بناء قاعدة معرفية دقيقة حول الموارد والقدرات المحلية.

ويتحقق ذلك عبر إعداد خارطة اقتصادية جهوية لكل ولاية ومنطقة، تعتمد على جمع المعطيات الإحصائية الميدانية، وإنشاء مديريات للتخطيط والإحصاء على المستوى الولائي، وتطوير بنوك معلومات اقتصادية وديموغرافية ورقمنتها، وتوظيف تقنيات الجيوماتيك لتحليل التوزيع المكاني للأنشطة والموارد وتحديد الأولويات التنموية.

رابعًا: الأقطاب الصناعية والاقتصاد المنتج

تعتبر الصناعة أحد أهم أدوات الاقتصاد الجهوي في خلق القيمة المضافة وامتصاص البطالة.

وتعمل الجزائر اليوم على بعث أقطاب صناعية جهوية متخصصة حسب خصوصيات كل منطقة، تشمل الصناعات الميكانيكية، الكهرومنزلية، الغذائية، والمنجمية.

كما يُعد دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة جزءًا أساسيًا من هذا التوجه، لما لها من دور في تنشيط الاقتصاد المحلي واستيعاب اليد العاملة.

خامسًا: البنى التحتية والربط الاقتصادي بين الأقاليم

إنّ تفعيل الاقتصاد الجهوي يتطلب تهيئة البنى التحتية المناسبة، بما يضمن الربط الاقتصادي واللوجستي بين المناطق.

وتتجسد هذه الرؤية في توسيع شبكة السكك الحديدية، وتطوير شبكة الطرق الوطنية، وتأهيل الموانئ والمطارات الداخلية لدعم الصادرات وتسهيل تنقل السلع والبضائع.

سادسًا: إعادة التوازن الديموغرافي والعدالة المجالية

إنّ تركّز السكان والأنشطة الاقتصادية في الشمال خلق ضغطًا على المدن الساحلية واختلالًا في توزيع الموارد.

ولذلك، تهدف التنمية الجهوية إلى إعادة توزيع السكان والنشاطات الاقتصادية نحو الهضاب العليا والمناطق الداخلية من خلال توفير البنية التحتية، وتشجيع الاستثمار في المدن الجديدة، ودعم الزراعة الصحراوية والطاقة المتجددة.

خاتمة وتوصيات:

إنّ الاقتصاد الجهوي والحوكمة المحلية يشكلان اليوم خيارًا استراتيجيًا لبناء نموذج تنموي جديد للجزائر يقوم على العدالة المجالية والتكامل الاقتصادي بين الأقاليم.

ولتحقيق ذلك، يُوصى بما يلي:

1. تفعيل اللامركزية الاقتصادية وتمكين الجماعات المحلية من أدوات التخطيط والتنفيذ المالي.

2. إرساء منظومة رقمية موحدة لتبادل المعطيات الاقتصادية بين المركز والجهات.

3. دعم الأقطاب الصناعية الجهوية وربطها بالبنى التحتية للنقل واللوجستيك.

4. تحفيز الاستثمار المحلي من خلال حوافز جبائية ومالية موجّهة.

5. تثمين الموارد البشرية المحلية عبر برامج تكوين وتشغيل موجهة.

بهذه المقاربة، يمكن للجزائر أن تؤسس لتنمية احتوائية ومتوازنة تحقق التناسق بين الجغرافيا والاقتصاد، وبين الحوكمة والتنمية.

إعداد: البروفيسور عبد القادر بريش

خبير اقتصادي ونائب برلماني مهتم بقضايا التنمية وحوكمة السياسات العمومية