التعبئة فعل استشرافي حقيقي!

على خلاف ما تَبادر لذهن الكثير بعد مصادقة مجلس الوزراء يوم الأحد الماضي على مشروع قانون يتعلق بالتعبئة العامة، فإن الأمر لا يتعلق بمواجهة حالة ضغط استثنائية داخلية أو خارجية بقدر ما يتعلق بفعل استباقي ينبغي أن تقوم به أية دولة تسعى للحركة ضمن رؤية استشرافية في مختلف سياساتها.

لقد سبق وأن تناولتُ هذا الموضوع في محاضرة قدمتها في 16 ماي 2024 عن “دور الطبقة السياسية في صناعة الرأي العام وفي تعبئة المجتمع حول القضايا الوطنية” خلال ندوة نظمها حزب “طلائع الحريات” رافقني فيها الزميل الأستاذ الدكتور أحمد عظيمي. خلال هذه المحاضرة كانت لي الفرصة لأُبيِّن أن مسألة التعبئة – بمفهومها الواسع – ينبغي ألا تكون ردة فعل لحدث طارئ أو أزمة خطيرة مهما كانت طبيعتها، إنما ينبغي أن تُبنَى حول “فكرة مركزية” تتبناها الدولة وتكون هي عنوان مشروعها المستقبلي. 

هذه الفكرة المركزية يصوغها فريق عبر تخصصي يستوعب بدقة التحولات القائمة والمحيطة بالدولة وخاصة القادم منها في المستقبل، ويتمكن من صوغ ذلك في عبارة موجزة تشكل النقطة الجاذبة لأي فعل تعبوي. وهذا يدخل تماما في نطاق العمل الاستشرافي المتعدد الاختصاص الذي باتت الأمم المتقدمة تستند إليه في صوغ سياساتها المستقبلية واستباق التحديات والتهديدات، بل والشروع في بناء نموذج القوة والمكانة الإقليمية والدولية التي تتطلع إليها.

وأذكر في هذا المجال أني قدَّمتُ الفكرة المركزية التي قامت الصين بالتعبئة الشاملة حولها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وضمنت لها الوصول إلى المكانة التي هي عليها الآن والتي أعاد إحياءها أستاذ الاقتصاد ووزير المالية Lou Jiwei صاحب المؤلف الشهير “الإصلاحات الماكرو اقتصادية في الصين”، وكانت بمثابة عنوان البراغماتية الصينية لحد الآن. تقول الفكرة المستمدة من التراث الصيني: “لا يهم لون القط طالما أنه يصطاد الفئران”، وقد تبناها أيضا الحزب الشيوعي الصيني كعنوان لبرنامجه وأصبحت محرك تعبئة جميع الموارد البشرية والمادية لتتمكن الصين من إلحاق الهزيمة بإعدائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وقد حدث ذلك. 

وللصين عدة تجارب وأمثلة في هذا المجال، كما أن لمختلف الدول قديما وحديثا تجارب مماثلة، يكفي أن نذكر عنوان “الحرب على الإرهاب” الذي قامت ومازالت الولايات المتحدة الأمريكية تُعبِّئ كافة طاقتها حوله، من دون أن يُنسيها هذا الشعوب المستضعَفة في نموذج الجزائر ما قبل استعادة الاستقلال عندما طرحت الحركة الوطنية فيها موضوع “الاستقلال” كفكرة وهدف مركزي تمت تعبئة كافة موارد الأمة لأجل تحقيقه، وتحقق ذلك..

لذلك عندما يُطرَح اليوم موضوع التعبئة، في نطاق المادة 99 من الدستور، ينبغي أن نضعه ضمن سياق رؤية استشرافية، لا أن نربطه بسياسة ردة الفعل، وهو للأسف مع سعت بعض التحاليل لتوجيه الرأي العام نحوه باعتبار أن “التعبئة” هي ردة فعل على خطر قائم وليس حتى قادم!

نحن بالفعل في حاجة إلى ضبط آليات وقوانين وتحديد مسارات للتعبئة بمفهومها الواسع استباقا لتطورات لاحقة نتوقع حدوثها واستحداثا لتغييرات نريد تحقيقها، وذلك هو العمل الاستشرافي بمفهومه العلمي القائم على العنصرين المتلازمين المعروفين: (استباق الفعل + استحداث الفعل)، بل لعلنا نقول إننا تأخرنا كثيرا في طرح مثل هذا الموضوع ظنا من البعض أن هناك إمكانية للتقدم ولمواجهة التحديات والتهديدات المستقبلية من دون تعبئة استباقية من خلال آليات وقوانين فعالة تسعى لتحقيق فكرة مركزية للدولة تكون قد صيغت بطريقة مُحكَمة واُعتمَدت عنوانا للعقود القادمة نسعى لتجسيدها.. وليس غريبا عنا ذلك، لقد فعلها آباؤنا بالأمس ونستطيع أن نفعلها اليوم وننتصر..

د. قلاله محمد سليم
د. قلاله محمد سليم

عضو مؤسس ومدير عام المركز
أستاذ - باحث في العلوم السياسية جامعة الجزائر3 منذ 1984 إلى اليوم.
 مدير سابق لـ "مركز الدراسات التطبيقية والاستشراف/ CEAP " – الجزائر (2006 – 2013)
 خبير متعاون مع مخبر ليبسور/LIPSOR بباريس: مخبر الابتكار والاستشراف والتنظيم.
 أستاذ مادة الدراسات المستقبلية بمعهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية (في طور الماستر والدكتوراه)
 محاضر وناشر مقالات وكتب علمية في الاستشراف داخل وخارج الجزائر.
مؤسسة جريدة الحقيقة الأسبوعية ومحرر صفحة المستقبليات فيها.
 إنجاز دراسات استشرافية لعدة فواعل تنموية.
 محرر أسبوعي لعمود "مساحة أمل" بيومية الشروق الجزائرية منذ 2003.
 منتج أسبوعي لحصة "استشرافات" أسبوعيا على قناة الشروق الجزائرية الخاصة

المقالات: 7