بدايةً، يجدر التّمييز عند التطرّق إلى ظاهرة “الدّيمقراطية” في عالم اليوم، بين “الدّيمقراطية” على أنّها قيمة مجرّدة عالمية تاقت وتتوق إليها جميع الجماعات البشرية من الجماعة القبلية إلى الجماعة الإمبراطورية وإلى الجماعة “المدينة الدّولة” إلى الجماعة الوطنية أو الدّولة الأمّة، وبين الدّيمقراطية على أنّها آليات لتّداول والانتخاب والاستفتاء وتقديم العرائض والتّأهيل للقيادات السّياسية.
كما ينبغي التّمييز بين الدّيمقراطيات من حيث قيمتها المجتمعية السّياسية المركزية، ومن حيث كيفية ضبط علاقة الفرد بالجماعة: فهناك “الدّيمقراطية اللّبرالية” وقيمتها العليا والمركزية هي الحريّة: (مثل النّظم اللّبرالية الرّأسمالية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان..)، و”الدّيمقراطية الوطنية أو القومية” قيمتها العليا ومركزية الأمّة مثل كتلة عضوية (النّظم القومية الفاشية والنّازية وأشباهها: نظام هتلر وموسوليني..)، و”الدّيمقراطية الاشتراكية أو الاجتماعية أو ديموقراطية النّظم الشّيوعية ونظم الحزب الواحد”، (نظم الدّول الاشتراكية التي لم يبق منها سوى الصّين وكوبا وكوريا الشّمالية.. ونظم الحزب الواحد في سوريا ومصر وغينيا سابقًا).
وثمّة “الدّيمقراطية الإسلامية والمسيحية واليهودية” التي تستلهم مرجعيتها من القيمة العليا للدّيانات المعنية وتضع أهدافًا وسياسات عامّة على منوالها، (حركات لاهوت التحرّر وأحزابها في دول أمريكا اللّاتينية والأحزاب الدّيمقراطية المسيحية في ألمانيا الاتّحادية مثلًا والأحزاب الإسلامية الدّيمقراطية مثل تركيا المعاصرة وماليزيا وأندونيسيا.. إلخ).
ويمكن تمييز تلك الدّيمقراطيات المعاصرة أيضًا من خلال نظمها الانتخابية (الأغلبية النّسبية، المطلقة والموصوفة.. إلخ) وأنماط إداراتها الانتخابية (العامّة، والمستقلّة والمختلطة).
كما يمكن تمييز النّظم الدّيمقراطية من حيث نمط التّمثيل والتّداول والنّقاش العام والتّوزيع للثّروة الوطنية ومنه تطعيم ممارسات وآليات الدّيمقراطية النّيابية (البرلمانات والمجالس المنتخبة)، بممارسات وآليات الدّيمقراطية التّشاركية (مساهمة منظّمات المجتمع المدني في نقد السّياسات العامّة وتقديم مساهمات وبدائل)، بممارسات وآليات الدّيمقراطية التّوزيعية (من خلال اعتماد الميزانية البلدية الجماعية، واعتماد التّمييز الإيجابي مع الأقليات وتكافؤ الفرص).
كما أنّ التّمييز بين الدّيمقراطيات قيمًا ونظمًا وآليات ينبغي التّمييز بين التسلّطيات أو الدّيكتاتوريات والشّموليات في ممارسة الحكم والسّياسة، من حيث الشّرعية والوصول إلى السّلطة وطريقة الحكم ومدى احتكار السّلطة ومدى تداول السّلطة بين الأغلبية الحاكمة والأقلية المتحوّلة نحو أغلبية عند الحسم الانتخابي لصالحها.
والأهم في موضوع “الدّيمقراطية” هو أنّها جميعًا تطبّق ضمن الأطر الإقليمية الوطنية، وليس هناك ظاهرة تسمّى الدّيمقراطية الدّولية أو العالمية بالنّظر لاستحالتها العملية، لعدم القدرة على تنزيلها في الواقع الدّولي المعاصر القائم على تراتبية القوّة الدّولية، أي على الطّبيعة الفوضوية المبنية على موازين القوى وإعلاء أولوية المصلحة القومية والتّأكيد على السّيادة الوطنية والتوجّس من أيّ مساعي لقضم جوانب من تلك السّيادات القانونية والنّقدية والعسكرية والسّياسية والتّكنولوجية.
إلى جانب ذلك فإنّ “الدّيمقراطية الدّولية” تظلّ يوتوبيا تتطلّب إقامة آلية البرلمان الدّولي، والحال أنّ البشرية المعاصرة استطاعت بالكاد إيجاد منظّمة اتّحاد البرلمانات الدّولي، وتتطلّب إقامة حكومة عالمية والحال أنّ المستطاع هو بالكاد إقامة حكومات فوق وطنية مثل هندسة الاتّحاد الأوروبي ومفوضيته وبرلمانه وبنكه المركزي الأوروبي وهي الآن تجربة تترنّح مع البريكسيت وربما الجرمانكسيت والفرونكسيت.. وتتطلّب يوتوبيا “الدّيمقراطية الدّولية” أيضًا إنشاء عملة نقدية دولية يسيّرها بعدل بنك مركزي دولي أو عالمي ويسهم في إقامة تنمية اقتصادية دولية مستدامة وعادلة، والحال أنّ الدّول المنتصرة في الحرب العالمية الثّانية بالكاد أقامت مؤسّسات بروتنوودز مثل صندوق نقد دولي وبنك عالمي وبنك تسويات دولية ومنظّمة التّجارة العالمية التي تعمل بمنطق التّصويت الأعلى هو فقط للدّول ذات المساهمات المالية الأقوى، بالدّولار المعولم، المتحكّم فيه من حكومة الولايات المتّحدة الأمريكية والقوى الأنغلوساكسونية وحكومات الدّول المدولرة.
وتتطلّب يوتوبيا “الدّيمقراطية الدّولية” أيضًا إقامة قوّة عسكرية وأمنية وشرطة دولية ومجلس أمن دولي والحال أنّ البشرية استطاعت بالكاد إنشاء مجلس أمن دولي غير فاعل بسبب تناوش الدّول الكبرى على القرار فيها بين دول مالكة للفيتو ودول لا تمتلكه، وبالكاد أنشأت منظّمة الأنتربول، أي البوليس الدّولي، وهي محدودة في مجالات تدخّلها لمكافحة الجرائم الدّولية العابرة للحدود الوطنية مثل الاتّجار بالبشر والمخدّرات والسّلاح وغيرها من الجرائم.
كما تتطلّب يوتوبيا “الدّيمقراطية الدّولية” أيضًا إقامة سلطة قضائية دولية تسهر على تطبيق القانون الدّولي العام والخاص وإنفاذها والحكم في النّزاعات الدّولية والمحلية وتحقيق العدالة العالمية، والحال أنّنا أمام محكمة عدل دولية ذات سلطة شكلية ولا تمارس سوى سلطة استشارية معنوية خافتة، وأيضًا نحن أمام محكمة جنايات دولية لا تمارس مهامها إلّا في قضايا جنائية محدودة، وغالبًا ضدّ شخصيات سياسية من الدّول الضّعيفة، كما تحفّظت على ميثاقها الدّول الكبرى، وترفض إخضاع مواطنيها المجرمين لمحاكمها رغم ما يحدث أمام أنظار قضاتها من مجازر إبادة جماعية وإرهاب دول وممارسات احتلالية في العراق والسّودان وفلسطين ومالي وغيرها.
أخيرًا، نقول إنّنا إذًا في المختصر نلاحظ أنّ نظم الحكم المسمّاة ديمقراطيات كلاسيكية وأغلبها غربي المنشأ والثّقافة، أمام مفارقة معاصرة تسوّق للفكرة الدّيمقراطية ليس كقيمة عالمية متعدّدة الصّيغ التّطبيقية، وإنّما كخطاب استهلاكي أو ابتزازي أو استعماري متجدّد وتفشل في تحويلها إلى آلية حكم عالمية، حيث تمارس القوى الكبرى بغضّ النّظر عن طبيعة حكمها الدّيمقراطي داخليًا، كافّة أشكال الحرب والدّبلوماسية المقوّضة لأمن وسيادة وحرية وحقوق الشّعوب والدّول الضّعيفة وإن مارست الدّيمقراطية في نظام حكمها، فهي ديمقراطيات موجّهة لسكّانها في الدّاخل لا للخارج، للسكّان الأصليين لا للسكّان المهاجرين وإن من الجيل الرّابع أو السّادس، للشّعوب البيضاء لا للشّعوب الملوّنة.
ديموقراطية تستأثر حكوماتها بالأسلحة النّووية والكيماوية والبيولوجية والسيبرية والفضائية بينما تزعم أنّ الدّيمقراطيات لا تتقاتل ولا تتنازع فيما بينها على خلاف النّظم التّسلّطية والشّمولية، والحال أنّ عددًا هامًّا من النّظم التسلّطية والشّمولية هي نتاج تدخّلات ودعم وانقلابات واشتراطات الدّول الرّأسمالية الدّيمقراطية في الدّاخل والاستبدادية أو الاستعمارية في الخارج.
ومنه ما تبرّر به لاحتلال أرض فلسطين من خلال منح الاحتلال البريطاني صكّ احتلال أرض شعب فلسطين لجماعات إرهابية صهيونية (شتيرن وأرغون وشوفوبانيم وهاجانا..) وتشكيل جيشها وبناء كيانها “إسرائيل” وتحويلها قاعدة وظيفية متقدّمة لاستدامة السّيطرة على آبار النّفط والغاز وطرق التّجارة الدّولية المتواجدة في دول المشرق العربي الإسلامي، واستدامة تفكيكها وحروبها القطرية والحدودية والأهلية ومنع أيّ محاولة للوحدة القومية وإن تمّت بالطّرق الديمقراطية التعاهدية أو الدّستورية، طبعًا لأنّ نظم الحكم الغربية الدّيمقراطية في الدّاخل منافقة ومستبدّة في الخارج، ولا تحتكم في معاملاتها الخارجية إلّا لمنطق المصالح الأنانية وموازين القوى.
وفي ظلّ الانتقال الجيوسياسي والجيواستراتيجي والجيواقتصادي والجيوثقافي والجيورقمي والجيوإيكولوجي الرّاهن، أي في ظلّ مواجهات جبهات “الحرب العالمية الثّالثة” التي تدخل البشرية فيها رويدًا رويدًا.. تزداد الاختراقات والانتهاكات للقيم الدّيمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والعدالة الدّولية في أدنى معانيها.
وأكثر ما يظهر هذا الانحدار في الحرب الجارية في فلسطين المحتلّة، ما يدعو القوى السّاعية لإعادة بناء نظام دولي جديد قيمًا وآليات للحكم والاقتصاد تشارك في بنائه معظم شعوب العالم وليس كما حدث بعيد الحرب العالمية الثّانية. وتلك معركة فكرية وسياسية كبرى تتطلّب انتظار حسم القوى الصّاعدة والمتراجعة في القوّة الدّولية في النّزاعات الجارية في أكثر من جبهة وقطاع. في انتظار بدء جولات التّفاوض الدّولي من جديد بين المنتصرين والمنهزمين في تلك “الحرب العالمية الثّالثة”، تظلّ البشرية رغم آلام اللّحظة الدّولية الظّالمة الرّاهنة توّاقة لنظام دولي أكثر إنصافًا وتحرّرًا من الظّلم والاستعباد والاستبداد.