حتى تنتصر استراتيجية السكينة..

يبدو أن هناك سعيا لإيجاد أجواء من التوتر داخل مجتمعاتنا لمنعها من الانطلاق نحو بناء مستقبلها بكل ثقة. يدخل هذا ضمن ما يُعرَف باستراتيجيات “شد الأطراف” أو استراتيجيات “صناعة التوتر Strategy of Tension” التي كثيرا ما تستخدمها الدول والحكومات لإضعاف بعضها البعض أو تهيئتها للاضطراب.. وهي أساليب قديمة قِدم ممارسة السياسة عند البشر، ومع ذلك مازالت تُستخدَم وتؤتي أكلها إلى اليوم.. 

من عهد كوتيليا – تشانكايا -الهندي (Kautilya) قبل الميلاد إلى عهد مراكز التفكير وصناعة السياسات اليوم، جميعهم اتفقوا على أن إدخال مجتمع ما ضمن دائرة التوتر، يُعَدُّ مرحلة سابقة لتهيئته لاضطرابات أكبر لاحقا، وربما لانفجارات داخلية. لذلك يُعتَبر رصد التوتر ومتابعته والقضاء على مسبباته من أفضل الأساليب الاستباقية لمنع وقوع الأزمات.

ومن بين الإشارات التي تدلنا على وجود “استراتيجية توتر” أو عناصر استراتيجية لإحداث توتر في مجتمع، أن يتم تغيير خياره مثلا من بديل التعبئة القائم على فكرة مركزية كفعل استشرافي إلى بديل التعبئة القائم حول قضية مختارة بعناية، تحمل شحنات عاطفية عالية أولا وقابلة للتضخيم ثانيا وغامضة جزئيا ثالثا.. 

ويتم في مرحلة الإعداد، لهذه القضية المختارة بعناية، إيجاد أو “طبخ” سردية أو سرديات متناقضة حولها، تُعزَّز بشهادات مزعومة أو حقيقية منزوعة من سياقها ثم تُطلق حملة أو حملات واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعي لأجل المساهمة في تكثيف الخلافات حولها بزعم “حل” التناقضات القائمة حولها، حتى يبدو غير المساهم فيما يوصف بالنقاش (الخلاف) وكأنه مُتخلٍ عن مسؤليته أو مرتكب لجرم ما..

والغاية من كل ذلك هي زيادة درجة وحدة التوتر في هذا المجتمع، ثم تأجيجه عبر الذباب الإلكتروني والروبوتات المُعدَّة خصيصا لهذا الغرض المعزّزة بالذكاء الاصطناعي. وتُسمَّى كل هذه العملية بصناعة “استراتيجية التوتر” التي يُفترَض أن تقابلها استراتيجية صناعة السكينة التي لا يُنتَبه لها عادة، بالرغم من أن ذلك هو ما يحتاجه أي مجتمع يسعى للانطلاق الحقيقي في بناء اقتصاد بلده أو تعزيز أركان دولته.

ولعلنا عشنا منذ ما عُرف بالربيع العربي تطبيقا ميدانيا لاستراتيجية التوتر هذه في أكثر من دولة، وعرفنا ما تَرتَّب عنها من نتائج، تراوحت بين مَنع البلد من الانطلاق نحو التقدم (كحد أدنى) إلى إيصاله إلى الحرب الأهلية ونقطة ما دون الصفر (كحد أقصى).

لذا بات علينا اليوم واجبا ملحا أن نعتمد الترياق المناسب لهذه الاستراتيجية الهدّامة، وهذا لن يتم إلا باعتماد واعٍ لِمبادئ استراتيجية السكينة.. التي ينبغي أن تقوم على جملة من الركائز لعل أهمها:

  • تعميم الوعي بخصائص ومخاطر استراتيجية التوتر حتى يقل عدد المنخرطين فيها إلى أدنى مستوى.
  • توضيح وتأكيد الرؤية المستقبلية المشتركة البديلة التي تؤطر استراتيجية السكينة، وتعطيها معنى والسعي لزيادة عدد المنخرطين فيها إلى أقصى حد ممكن.
  • إبراز جوانب العدالة بمختلف مستوياتها (القانونية، الاجتماعية، الاقتصادية..) ضمن هذه الرؤية باعتبارها مانعة لتأجيج الخلافات والحرص على تطبيق القانون في الواقع.
  • كشف ومحاربة التضليل الإعلامي وتعزيز الأمن السيبراني بمختلف الوسائل..

وهذه الركائز، وغيرها، ينبغي أن تنعكس بوضوح في الخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي بحيث تمنعه من الوقوع في مضمون غير مناسب يخدم مشروع استراتيجية التوتر أكثر مما يخدم مشروع استراتيجية السكينة، (وكثيرا ما يحدث ذلك عن وعي أو عن غير وعي).

وقد أصبح اليوم من السهل التمييز بين مختلف أشكال الخطاب بأي صيغة كان. لذا فإن أي طرف اليوم هو مطالب بالتحكم في خطابه وفي قراراته، ذلك أن أي طرف بالقدر الذي يُمكِنه أن يكون مساهما في استراتيجية السكينة بقدر ما قد يُخطئ ويتسبب في تأجيج استراتيجية التوتر وهو الأمر الذي ينبغي ألا يقع.. وهذا ما ندعو إليه وما نرجوه وما يجعلنا أكثر ثقة وأملا في المستقبل..

د. قلاله محمد سليم
د. قلاله محمد سليم

عضو مؤسس ومدير عام المركز
أستاذ - باحث في العلوم السياسية جامعة الجزائر3 منذ 1984 إلى اليوم.
 مدير سابق لـ "مركز الدراسات التطبيقية والاستشراف/ CEAP " – الجزائر (2006 – 2013)
 خبير متعاون مع مخبر ليبسور/LIPSOR بباريس: مخبر الابتكار والاستشراف والتنظيم.
 أستاذ مادة الدراسات المستقبلية بمعهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية (في طور الماستر والدكتوراه)
 محاضر وناشر مقالات وكتب علمية في الاستشراف داخل وخارج الجزائر.
مؤسسة جريدة الحقيقة الأسبوعية ومحرر صفحة المستقبليات فيها.
 إنجاز دراسات استشرافية لعدة فواعل تنموية.
 محرر أسبوعي لعمود "مساحة أمل" بيومية الشروق الجزائرية منذ 2003.
 منتج أسبوعي لحصة "استشرافات" أسبوعيا على قناة الشروق الجزائرية الخاصة

المقالات: 7